د. تنيضب الفايدي
مرضت فتاة مرضاً لازمها عدة سنوات بسبب ما تعانيه من تعدد النعم (الخيرات) على زميلاتها ولا تنظر إلى ما أنعم الله به عليها وأورثها القلق المستمر وقبل أن تروي حكايتها على الفرد العاقل أن ينظر إلى ما لديه حتى يريح نفسه، وقد منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن ينظر الشخص إلى ما عند غيره من النعم وينسى ما لديه، فقد جاء في حديث فيه أنَّ أبا ذَرٍّ الغِفَارِي رضيَ الله عنهُ قالَ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدَ أنْ ذكرَ لهُ أشياء أوصاهُ بها؛ قال أبو ذر: زِدني يا رسولَ الله. فقال: «أَحِبّ المَساكينَ وجالِسْهُم ولا تَنْظُرْ إلى من هوَ فَوْقَكَ وانْظُر إلى من هوَ دُونَك». معنى الجملةِ الأخيرة لقولهِ عليهِ الصلاةُ والسّلام: «لا تَنْظُرْ إلى من هوَ فَوْقَكَ وانْظُر إلى من هوَ دُونَك» أنهُ ينبغي للمُسلم أن ينظرَ إلى مَن هو دونَهُ، أي: إلى من هوَ أقلُ منهُ في الرِّزق وقوةِ الجسمِ، لأنه إذا كان نظرُهُ إلى من هو دونَهُ يكونُ ذلكَ مساعدًا له على شُكرِ الله تعالى على ما أَوْلاهُ من النِّعَم. فكل إنسان لديه من النعم لا قيمة لها، فهل أحد يبيع عينيه بمليون ريال، وكم من الثمن يساوي سمعك ولسانك، فإذا فكر يجد بأنها لا تقدر بثمن ولا يتخلى عن إحداهما حتى ولو جيء إليك بذهب العالم، لكن الإنسان لا يفكر في ذلك، فإنه بهذا كما قال شوبتهور: «ما أقل ما نفكر فيما لدينا، وما أكثر ما نفكر بما ينقصنا».
وقد ذكر دايل قصة فتاة وهي كما يلي: «فتاة أعرفها تدعى لوسيل بليك، كادت تقع من على حافة الهاوية، قبل أن تفهم وتتعلم كيف ترضى بما هي في الحياة ولا تطمع أكثر، بدلاً من أن تقع ضحية القلق الذي ينتابها من جراء ما ينقصها. وقد حدثتني قصتها حيث تقول: «كنت أحيا في فترة قلقلة لا تهدأ من الاضطراب، كنت في خلالها أدرس العزف على الأرغن في جامعة «أريزونا» وفي الوقت ذاته كنت أهييء برنامجاً في الخطابة، وأدرّس طلبة الموسيقي، وبالإضافة إلى هذا كنت أحضر حفلات الرقص، والحفلات العامة، ومباريات ركوب الخيل.
وفي يوم من الأيام أصبت بمرض القلب، وأشار عليّ الطبيب بقوله: «يجب أن تلازمي فراشك سنة كاملة تقريباً». في الحقيقة انتابني الخوف القوي، وسألت نفسي في أسى: «ما سبب حدوث كل هذا لي؟ ما هو ذنبي لأنال هذا العقاب بأكمله؟ لقد بكيت، وانتحبت وزاولتني مرارة.. تولتني ثورة عارمة، وإلى جانب هذا لازمت الفراش كما أشار الأطباء حتى جاءني إلى البيت في ذات يوم جار لي فنان يدعى «رودلف» وقال لي: ولا شك أنك تعتقدين أن بقاءك اثني عشر شهراً في البيت في الفراش هي نكبة مذهلة! ولكن الحقيقة عكس هذا تماماً، إن هذه السنة الكاملة التي ستلازمين فيها الفراش هي أشبه ما تكون بفترة تأمل، تقضينها مع نفسك وتتعرفين من خلالها عليها، وسوف تنالين ثروة روحية في هذه الفترة لا تقدر، بعد هذه الكلمات هدأت نفسي، وسكنت سكون الأموات إلا من صخب نبضات القلب. وفي ذات يوم أصغيت إلى الراديو لأسمع مذيعاً يقول: «إن كل ما يبديه المرء من تصرفات ليس إلا انعكاساً لما يفكر به». وكنت في مرات سابقة قد سمعت كثيراً من هذه الأقوال ولكنها لم ترسخ في فكري مثلما رسخت الآن. وقررت أن أوجه أفكاري جميعها لما يعود عليّ بنفع وفائدة، ولكون تصرفاتي وجهاً آخر لها وبالفعل.. في كل صباح عودت نفسي عندما أفيق أن أشكر الله على حفظه لي طفلتي ونظري وسمعي و... وأحسست بعد هذا التفكير بالانشراح ينتابني، وازدادت بشاشتي للضيوف الذين جاؤوا لزيارتي وبطبيعة الحال ازداد عدد هؤلاء الضيوف يوماً بعد يوم، حتى لقد أمر الطبيب بألا يدخل الزوار عليّ إلا فرادى.
وبالفعل لقد انقضى عليّ تسعة أعوام، وإني إن أنسى لن أنس تلك السنة التي خلوت فيها لنفسي لكي أتعرف عليها جيداً، ولأكسب منها ثقافة روحية ما عرفتها بحياتي. إن تلك السنة التي اصطنعت فيها السعادة والسرور والانشراح والتي جلبتها لي ووضعتها في بيتي وفي قلبي تلك السنة لتستحق الشكر في الواقع: وأنه ليحز في نفسي عندما أعلم بأنني لم أعرف كيف أعيش حقاً، إلا حين خشيت أن توافيني المنية.
كلمة أقول إذا أردت تحطيم القلق، عد نعم ربك عليك، ولا تلتفت إلى ما عند غيرك.
وأرى أن يكتب أي فرد فينا عبارة (انظر إلى ما عندك ولا تنظر إلى ما عند غيرك) ويكررها دائماً ويحمد الله على ذلك.