د. تنيضب الفايدي
كلّما بثّ النشيد الإسلامي المعروف «طلع البدر علينا» يأتي المخرجون والمتحدثون والممثلون والمصورون بكاميراتهم إلى جنوب مسجد قباء ويبدؤون بنقل الصور ويرادفها الكلام غير الصحيح إلى المشاهدين والمستمعين، وقد يحتفظ بذلك التصوير والكلام المجافي للحقيقة ويعاد مرات على الأجيال اللاحقة على أساس أن ثنيات الوداع جنوب مسجد قباء.. وهكذا يكتب التاريخ الخطأ ويتم تداول ذلك بين الأجيال، بينما ثنيات الوداع في جهة مغايرة، وقد أثبتها العلماء طبقاً لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح الإمام البخاري وصحيح الإمام مسلم وغيرهما، والتطبيق العملي وحددتها الأجيال السابقة تماماً، والمشكلة الكبرى أن هذا التحديد الخاطئ يتكرر على مسمع من العلماء وأصحاب الحديث، وكأن هذا الخطأ لا يعنيهم، والحقائق التالية تظهر مكان ثنيات الوداع الحقيقي.
الثنية في الأصل كلّ عقبة في الجبل مسلوكة، واشتهرت بعض الثنايا في المدينة المنورة، مثل: ثنية عثعث، وثنية الشريد، وثنية البول، وثنية الحوض، وأشهرها على الإطلاق ثنيات الوداع.
ثنيات الوداع
ثنيات الوداع جزء من جبل سلع، حيث تتصل بجبل سلع عدة جبيلات، ففي الجنوب الشرقي جبل سليع، وفي الشرق يتصل به جبيل يشكل مع جزء من سلع ثنية الوداع (القرين الفوقاني) ثم جبل في الشمال الشرقي يسمى جبل الراية جبل ذباب (أو القرين التحتاني). كما يتخلل جبل سلع عدة شعاب وفي جميع اتجاهاته، ففي الجنوب شعب يسمى قديماً مِرْبد النعم يفيض على منهل الزكي.
وفي الشرق شعب أيضاً تمر به ثنية الوداع، وفي الشمال الغربي يوجد شعب أو تجويف به مجموعة من المساجد أشهرها مسجد الفتح، ويطلق عليها في الزمن المتأخر المساجد السبعة.
وفي الجنوب الغربي تجويف آخر أو الشعب يسمى شعب بني حرام، وهم فرع من قبيلة بني سلمة، ولهم مسجد هناك، يسمى مسجد بني حرام. وقد تم توثيقها بالأحاديث الصحيحة وبالواقع العملي والأدلة الميدانية، حيث لا توجد اجتهادات أخرى لتغيير موقعها أو الشك في ذلك.
والوداع اسمٌ من التوديع، وثنيات الوداع ثنيات متتالية مشرفةٌ على المدينة، تقع شمال المدينة (القديمة) في أول الطريق المحاذي لجبل سلع من الشرق، وقد جاء ذكر ثنيات الوداع في الحديث الشريف فعن عبدالله بن عمر قال: أجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ضُمر من الخيل من الحفياء إلى ثنية الوداع، وأجرى ما لم يضمّر من الثنية إلى مسجد بني زريق قال ابن عمر: وكنتُ فيمن أجرى. وقد اشتهر الموقع بمسجد السبق.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يتركون المدينة على خير ما كانت، لا يغشاها إلا العوافي- يريد عوافي السباعِ والطير- فآخر من يُحشر: راعيان من مزينة، يريدان المدينة، ينعقان بغنمهما، فيجدانها وحوشاً، حتى إذا بلغا ثنية الوداع، خرّا على وجوههما). متفق عليه.
كما سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريق ثنية الوداع في غزوة أحد فقد ذكر الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ركب خرج السعدان أمامه يعدوان سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، كل واحد منهما دارع والناس عن يمينه وعن شماله حتى سلك على البدايع، ثم زقاق الحسى حتى أتى الشيخين وهما أطمان كانا في الجاهلية فيهما شيخ أعمى وعجوز عمياء يتحدثان فسمى الأطمان الشيخين، حتى انتهى إلى رأس الثنية التفت فنظر إلى كتيبة خشناء لها زجل خلفه، فقال: ما هذه قالوا: يا رسول الله هؤلاء حلفاء ابن أبي من يهود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الشيخين فعسكر به.
إضافةً إلى أحاديث أخرى منها: حديث عبد الله بن عمر أنه قال لقزعة الراوي عنه « لما أراد الانصراف قال: كما أنت حتى أودعك كما ودعني النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فصافحني، ثم قال: أستودعك الله: دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك». زاد النسائي في رواية له: «وأقرأ عليك السلام» وأخرج أيضاً الترمذي والنسائي والحاكم وابن حبان في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول للرجل إذا أراد السفر أدْنُ مني حتى أودّعك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعنا فيقول: استودع الله دينك إلخ. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأخرج أبوداود عن عبدالله بن يزيد الخطمي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شيّع جيشاً فبلغ ثنية الوداع، قال: استودعُ الله دينكم وأمانتكم وخواتيم عملكم». صحح إسناده النووي.
واخْتُلِفَ في تسميتها بذلك فقيل: لأنها موضع وداع المسافرين من المدينة إلى مكة (سابقاً)؛ حيث أنها الطريق الوحيد إلى المدينة إذا ما استثني طريق المدرج الذي يخترق حرة الوبرة (الغربية) إلى العقيق، وقيل: كان اسمها الجاهلي ثنية الرِّكاب ثم تغير اسمها فأصبحت ثنية الوداع. وقيل: في تسميتها أيضاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع بها بعض من خلفه بالمدينة، وقيل: لتوديع النساء التي استمتعوا بهن عند رجوعهن من خيبر، وفي رواية عند خروجهن إلى تبوك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره حينئذ عليها. قال العباسي: والصحيح -أي: ثنيات الوداع- أنه اسم قديم جاهلي سمي لتوديع المسافرين، وقيل: كان اسمها الجاهلي ثنية الرِّكاب ثم تغير اسمها فأصبحت ثنية الوداع. قال أحد المؤرخين: ثنية الوداع معروفة خارج باب الشامي وهي ما بين مسجد الراية الذي على جبل ذباب ومشهد النفس الزكية أي: مسجد الزكي. وقد تابع الباحث تحديد موقع ثنيات الوداع حيث إنها أي: ثنيات الوداع هي مدخل المدينة (القديمة) من الشمال و على ذلك شبه إجماع والواقع الميداني يثبت أنها عدة ثنيّات وكلها شرق جبل سلع، فالثنية الأولى يشكّلها جبل صغير (القرين الفوقاني) مع جبل سلع، كان عليه مسجد تم بناؤه عام 1381هـ، وصلّى به الكاتب عدة مرات ويتم الوضوء بواسطة (أباريق) أمام بابه، ويعلم الجميع أن هذا المسجد بداية لثنيات الوداع، علماً بأن المسجد ليس له تاريخٌ، وإنما المعلم التاريخي هو الجبل الصغير الذي يقيم عليه المسجد (القرين الفوقاني) وقد أزيل ذلك الجبل مع المسجد بحجة توسيع الطريق وكان موقعه عند مدخل نفق المناخة (حالياً) من الشمال.
والثنية الثانية تقع وراءها ويشكلها جبل الراية (القرين التحتاني) وعليه مسجد الراية حيث يقترب من جبل سلع من الشرق وكان يشكل ثنية أخرى قبل اتساع الطريق.
أما جنوب المدينة فلا ثنية هناك نهائيًّا حسب الواقع الفعلي وحسب ما ذكر المؤرخون، ودخول المدينة كان من الشمال دائمًا لأن كل الجهات الأخرى تغطيها الحرار، لذلك كان الخندق من الشمال. وهناك مدخل في الحرة الغربية (حرة الوبرة) يسمى المدرّج وينزل على الوادي المبارك.
التحقيق في موضع النشيد المشهور (طلع البدر علينا *** من ثنيات الوداع):
ربط بعض المؤرخين هذا النشيد بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يثرب مهاجراً، وهذا خطأ من عدة وجوه:
أولاً: إن المعلوم جغرافياً أن قباء تقع جنوب المدينة، وثنية الوداع تقع عند مدخل المدينة من جهتها الشمالية، فكيف استقبل وِلْدان المدينة الرسول صلى الله عليه وسلم عند ثنية الوداع، وهو لم يدخل المدينة من جهتها التي تقع فيها ثنية الوداع، لذا يقول ابن القيم رحمه الله: «وبعض الرواة وهم في هذا ويقول: إنما كان ذلك عند مقدمه المدينة من مكة، وهو وهمٌ ظاهر، لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراهما القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام. وحسب الواقع الفعلي الميداني لاتوجد أي ثنية جنوب قباء حيث إن الكاتب كرر البحث من خلال الحرة جنوب قباء وشرق جبل عير الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يساره عند دخوله إلى قباء.
ثانياً: كان مجموعة من الأوس والخزرج يخرجون يومياً انتظاراً لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخبرهم بذلك رجل من يهود حيث صعد رجل على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرونه، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين، حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار، ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيّي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك. فبداية لم يعرف الأوس والخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عندما ظلله أبو بكر رضي الله عنه، لذا لم يكن هناك أي نشيد لاستقباله صلى الله عليه وسلم، كما لا توجد أي ثنية أو ثنيات مرتبطة باستقباله صلى الله عليه وسلم عند هجرته.
ثالثاً: قد مكث صلى الله عليه وسلم في قرية قباء عدة أيام ثم توجه إلى موقع مسجده صلى الله عليه وسلم الحالي ولم تكن بين قباء ومسجده صلى الله عليه وسلم ثنيات حتى يتم استقباله بنشيد (طلع البدر علينا)، وإنما عمّ الفرح أهل المدينة عند وصوله صلى الله عليه وسلم حيث ارتفعت الأصوات «جاء نبي الله، جاء نبي الله». فقد روى الإمام مسلم بسنده قال: «عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، صعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون: يا محمد، يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله».
رابعاً: نقل ابن حجر في الفتح يقول: ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله حتى جعل الإماءُ يقلن: قدم رسول الله، وخرجت جوارٍ من بني النجار يضربن بالدفّ وهن يقلن:
نحن جوار من بني النجار
يا حبذا محمد من جار
خامساً: روى البخاري في الصحيح عن السائب بن يزيد قال: «أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك». ومن رواية البخاري هذه استنتج بعض المؤرخين أن نشيد (طلع البدر علينا *** من ثنيات الوداع) قيل في رجوعه من غزوة تبوك، يعلق السمهودي رحمه الله على ذلك فيقول: (وكل هذه الروايات متظاهرة على أن هذه الثنية هي المعروفة بذلك اليوم في شامي المدينة ( أي شمالها) بين مسجد الراية الذي على ذباب، ومشهد النفس الزكية، يمر فيها المار بين صدَّين مرتفعين قرب سلع). وإذا صحّ ما ورد في النشيد المذكور فإنه قيل فعلاً في رجوعه من غزوة تبوك.
سادساً: لم تذكر كتب الحديث الستة ولا كتب السير مثل كتاب السيرة النبوية لابن هشام والطبقات لابن سعد والطبري وابن إسحاق هذا النشيد في حوادث الهجرة، واستثناءً مما سبق فقد ذكر ابن حبان في كتابه الثقات (1-131)، بيتين من (طلع البدر علينا)، علماً بأن ابن حبان من علماء القرن الرابع الهجري وذكر بعدها قوله (وأخذت الحبشة يلعبون بحرابهم بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً بذلك) وفي نفس الصفحة السابقة، والصحيح أن الحبشة كانوا يلعبون بحرابهم داخل المسجد في يوم عيد فكيف يكون ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته لم ينزل بعد ليحدد موقع المسجد، كما لم يرد في كتب القرنين الأول والثاني، وهذا يجعلنا نقول: بأن النشيد كان يوم العودة من غزوة تبوك.
ثم إن المدينة عند هجرته صلى الله عليه وسلم كان اسمها «يثرب» وغيرها القرآن الكريم ثم رسول صلى الله عليه وسلم لاحقاً، قال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ}، وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرتُ بقريةٍ تأكل القرى، يقولون يثرب وهي المدينة تنفي الناس كما ينفي الكيرُ خبث الحديد) متفق عليه وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها». رواه البخاري.
وفي النشيد: جئت شرفت المدينة... فهل يعلم الأوس والخزرج الغيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيغير اسمها مستقبلاً إلى المدينة حتى قالوا شرفت المدينة.
وحفاظاً من العبث والتلاعب بمبادئنا وفي مقدمتها سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وحفاظاً على صدق تاريخنا ودفاعاً عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجهات ذات العلاقة أن تمنع الممثلين والمخرجين من العبث في السيرة النبوية أو بجزء منها.
وأخيراً فإن كلمات النشيد مناسبة لمقدمه المبارك صلى الله عليه وسلم وسهلة الحفظ ومناسبة لكل الطبقات ولا مانع من تكرارها من قبل الطلاب والطالبات إلا أن ربطها بيوم الهجرة وأنها قيلت في ذلك اليوم فغير دقيق، علماً بأنها قد نقدت من حيث كلماتها -أي: كلمات طلع البدر علينا - وأنها لا تتناسب مع قوة اللغة العربية زمن هجرته صلى الله عليه وسلم.