أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أفدنا من الغربيِّين إفاداتٍ جليلةً تخدم التأليفَ وتُنظِّمه؛ فمن ذلك علاماتُ الترقيمِ كالفواصل والأقواس وعلامات التعجب والاستفهام والتفريع؛ وهي علاماتٌ منهجيةٌ نفسيةٌ تُحَسِّنُ الخطَّ وتُهذبه، وتوضِّح الكلام وتُفَهِّمه، وتُشوِّق القارئ وتساعدُه على سرعة الفهم؛ ولم يُفَكِّر الأسلافُ في استيفاء هذه العلامات؛ لِقِلَّة الورق، ومبادرتِـهم إلى جَمْعِ العلم وتدوينه.. ومن حسنات المنهج الغربي ترقيمُ التعليقات على المتون في الحواشي؛ وأما الشُّروح فيجعلونها ذيولاً، أو دراساتٍ مستقلِّة؛ بينما كان الأسلاف يؤلِّفون الشروحَ ويسمونها حواشيَ، ثم يُهَمِّشون على الحواشي؛ فتكون حاشية الحاشية، وهكذا؛ والفكرُ الذكيُّ يَجِدُ تعباً شديداً في ربط المتن بالحاشية، ثم بربط حاشيةِ الحاشيةِ بالهامش.. ومن حسنات المنهج الغربي المقارنةُ بين النُّسخِ الكثيرة؛ بينما كان الأسلاف يكتفون بنسخةٍ واحدةٍ مقابلةِ بغيرِها تارةً، ويُصحِّحون نُسخاً سقيمةً تارة.. ومن محاسن المنهج الغربي تجزئةُ الكلامِ إلى فقراتٍ، وإكثارُ العناوِين الجُزْئِية، وتخريجُ غير النصوص الشرعية؛ بينما كان الأسلاف يَكْتَفُوْنَ بنسبة النصِّ إلى قائِله.. ومن محاسن المنهج الغربي صُنْعُ الفهارسِ الفنية كفهارس الأعلام المكانية والآدمية، وفهارسِ المعارف والمفردات والموضوعات.
قال أبو عبدالرحمن: كل هذه المناهجِ النفيسة تَجَمَّلَ بها العلمُ وتَيَسَّر، وبقيَ أثرٌ قبيحٌ من آثار المناهج الغربية بُلِيَ به أكثرُ المعاصرين؛ فأقْبحُ هذه المناهج بَتْرُ الكتابِ من البسملة؛ وفي كُتُبِ أهلِ الكتابِ التسميةُ بالعظيم الجليل يَعْنُوْن ربِّنا سبحانه وتعالى؛ ومجموعة النصوص الشرعية في البسملة مُتَضَافِرةٌ؛ وهي تُفِيدُ على أقلِّ تقدير مشروعيةَ البسملةِ كتابةً واستحباباً واتباعاً لسلفِ المسلمين في كتابةِ البسملة؛ فذلك خيرٌ وأوْلى من تقليدِ أهل الكتاب والعلمانيّْيْن الذين لا يَدينون دِيْنَ الحقِّ من ربِّ العالمين؛ فما بالك بالبسملة.. ومن آثار الغربيين السيئة في مناهجنا التأليفية حِرْمان الكتاب من مَلاحَةِ الاستفتاح الذي يتضمن توحيدَ الله وحمدَه، والصلاةَ على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، والتَّرحُّمَ على الصالحين، والتَّرضِّي عنهم؛ وكان مِن شرط المعاصرة عند هؤلاء، ومن مقوماتِ الفِكْرِ والجمالِ الفنيِّ: أنْ يكون الكتابُ خُلْواً من مداخل الأسلاف التي تُبارك العمر وتُزكِّيه.
قال أبو عبدالرحمن: لستْ أرى الاستفتاحَ على سبيل الإيجاب؛ ولكنني أُحذِّر من أنْ يكون ترك الاستفتاح والبسملة ظاهرةً أغلبية في مؤلفات المسلمين؛ لأنَّ ذلك عُزوفٌ عن الاستزادة من الخير دون مشقة؛ ولا يَرْغَبُ عن الاستزادة من الخير إلا من سَفِه نفسَه؛ وأما إهداءُ الكتب: فَهُوَ موجودٌ عند المسلمين؛ إلا أنهم يَذْكرونه في المقدمة؛ وأمَّا الغربيون فيفردونه أوَّل الكتاب بعنوان الإهداءِ؛ وللإهداءِ عِدَّةُ معانٍ تقديريَّةٍ عند المسلمين؛ فقد يكون الكتابُ عادياً وليس مما يُتَعبَّد به ككتابٍ عن الموسيقى في شعر (علي محمود طه)، أو الغنائية الوجدانية في شعر (ناجي)، أو نرجسية (أبي نواس)؛ ففي مثل هذه الكتب لا مانع من كون الكتابِ أُلِّف من أجل فلانٍ الْمُهدَى إليه العمل، وأنه المقصودُ رِضاه بالتأليف؛ لأنَّ موضوع الكتاب عادةٌ، وليس عبادةً.. وقد يكون الكتاب في غيرِ أمرٍ تعبُّدِيٍّ لا يجوز أنْ يُرادَ به وجهُ الله سبحانه وتعالى كالعلم الشرعي؛ فحينئذٍ يكون معنى الإهداء أحدُ أمرين: فإمَّا أنْ يكون الإهداء بمعنى تَثْوِيبِ العمل للمُهدَى إليه، أو إشراكِه في الثواب.. وإمَّا أنْ يكون الإهداءُ بمعنى إتاحةِ الانتفاع بالكتاب؛ ومعنى الإهداء حِيْنَئِذِن: أنني ألَّفتُ الكتابَ لينتفع به الناس، وأنا أُريد وجه الله، وأنت أيها المُهدَى إليه: أولى من ينتفع به؛ لأنك مخالفٌ لي، أو أولى من يفرح به؛ لأنك موافق، أو لأنك سببَ تأليفِه، أو لأنك أستاذي، أو لأنه ثمرةُ مساعدتِك.
** الْحُبُّ الرفاعي:
قال إمام السهل الممتنعِ البهاءُ زهير:
لعَلَّكُمُ قدْ صَدَّكمْ عن زِيارَتي
مَخَافَةُ أمْوَاهٍ لِدَمعي وَأنْوَاء
فلَوْ صَدَقَ الحبُّ الذي تَدَّعُونَهُ
وَأخْلَصْتمُ فيهِ مَشيتمْ على الماءُ
وَإنْ تَكُ أنْفاسِي خشَيْتُمْ لهيبَهَا
وهالَتْكُمُوا نِيْرانُ وجدٍ بأحشائي
فكونوا رِفاعيّْيْنَ في الحبِّ مرَّةً
وخُوضُوا لَظَى نارٍ لِشَوْقيَ حَرَّاءُ
وقد علَّق ناشرُ الديوان بقوله: (رفاعيّين): نسبةً إلى الرفاعية؛ وهي إحدى فرق الدراويش الصوفية تُنْسب إلى (أحمد الرفاعي).. وقوله (في الحبِّ): إشارةٌ إلى أنَّ نظرية الحبِّ الإلهي عند الصوفيّين: كانت تتناول أيضاً المخلوقاتِ جميعَها؛ لأنها تتجلَّـى فيها صفات الله، ولعلَّه يشير بقوله: (وخوضوا لظى نار) إلى ما كان يفعله الرفاعية في حال غيبوبتهم من قبضهم على الحديد زاعمين أنَّ الروح عندئذٍ تغادرُ الجَسَد، وتتصلُ بالخالِق [سبحانه وتعالى].. نسألُ الله السلامَةَ؛ وَقُبحاً لعقولِهم الْـهباء.
*** جَدَلِيَّةُ الفَتَى العربيِّ:
قال أبو عبدالرحمن: منذ طلائِعِ النهضةِ العربية الحديثة والفتى العربيُّ في تطلُّعٍ إلى مستقبلِه تطلُّعاً انقيادياً اِسْتِسْلامِيّْاً؛ وذلك جعل الرقعةَ العربية كلَّها كغيرها من أراضي الأمم النامية: رقعةَ تسويقٍ واستيرادٍ لكلِّ من يَزْحف إِليها عبر البحار والسهوب بأُمورٍ مادية عينية، وأمورٍ معنوية منطقية أو خُلُقِية أو جمالية.. وكادت تتغير سِحْنةُ المأثور التاريخي؛ فنجم في الرقعة العربية موقفان جدليان: أحدهما موقفُ التَّطلُّع إلى ما عند الأمم القوية باستسلامٍ يأخذ بالمُجْمل، ولا يقتصر على المِيزة.. وثانيهما موقفٌ مُنْحَطٌ مُتَخثِّـرٌ لا تهمه ضالَّةُ المؤمن التي ينشدها أنَّى وجدها؛ وهذا الموقف أيضاً يَتقَوْقَع على المأثور، ويأخذ بمجملِه، ولا يقتصر على مَزِيَّته.. وكان الموقف الأول هو الغالب السائِد في الرقعة، وكانت معارضتُه هي السبح في التيار.. وبعد مرور خمسة عقود على وجود هذين الموقفين: كان من الطبيعي ظهور موقف ثالث ستكون العُقْبَى له إنْ شاء الله تعالى.. إنه موقفٌ يعدُّ كلَّ مُضِيٍّ: مجردَ تجربةٍ كافية مُلِحَّةٍ على صحوةٍ وتبصُّرٍ، ومعادلة حسابية شِعارها الواحد المطلقُ: الأخذُ بالمِيزة، وتركُ المجمَلِ؛ ولا فرق بين القديم والجديد إذا تحقَّقَ مفهومُ المِيزة.. وعناصر هذا الاشْتِيارِ (وهي بمعنى الاختبار؛ ولكنها أَلَذُّ) على هذا النحو: العنصر الأولُ هو الاعتقادُ بكفاء الموهبةِ العربية عقليةً وسلوكاً ومهارةً، وأنَّ الحاجةَ إنما هي إلى شَغْلِ الموهبةِ العربية بالحِرْفة والمهارة التي تُـحَقِّقُ له القوةَ والاكتفاء.. والعنصرُ الثاني الاعتقادُ بأنَّ ما يحتاجه العربي من حِرْفَةِ الآخرين ومهارتهم: لا يمكن أنْ يُحَتِّمَ عليه تحطيمَ الثوابت من كِيانه، أو التخلي عن المِيزة من مأثوره؛ فبإمكان الفتى العربي أنْ يُمارس أرْقى حرفةٍ حضارية بعارِضَيه ولِـحيته اللذين هما من واجبات دينه، وجمالِ مأثورِه.. ويمكن أنْ يُنَظِّم دوامَ حرفته ومهارته وأعماله وسكنه وراحته فيما بين أوقات النداء الخمسةِ دون أنْ يستعير تنظيماً لدوامه مستورداً لا يراعي أوقات النِّداء الخمسة.. وبإمكانه إذا لم يرض بالبساطة العربية: أنْ يُصمِّم سكنَه على أمتع وأقوى ما عَرَفَتْه العِمارة الحديثة دون أنْ يجد ما يُحتِّم عليه السُّفْرة الأفرنجية، ونظامُ الضيافةِ الأوربية الشحيحُ الْـمُقَتِّرُ؛ بل يجعل قوةَ العمارة ومتعتَها لبححةِ الطبع العربي مظهراً وكرماً وخُلُقَاً.. والعنصر الثالث شعورُ الفتى العربي بأنه في موقف جدلي مع غابره وحاضره؛ فيقف موقف التلميذ المشاغِب، أو إنْ شِئْتُمْ فَسَمُّوه موقفَ الْـمُتَتَلْمِذ والمتحدي في آنٍ واحدٍ.. وليس معنى التَّتلمذ أنْ يشعر بأنه بحاجةٍ إلى أنْ يتعلم كيف يفكر؛ لأنَّ العربيَّ مفطورٌ على أصالةِ الفِكْرِ؛ وإنما معنى ذلك حاجتُه إلى اقتباسِ حِرفةٍ ومهارة يشغل بهما أصالةَ فكرِه الذي يمكن أنْ يُهدر في تحليل بيتِ شعرٍ، أو صياغةِ نكتةٍ (إياكم أنْ تَقِفُوا بالسكونِ، وضمِّ التاء هكذا (نِكْتُهْ)؛ فهذا عَيْبٌ).. والتَّحدي أنْ يُجابِه كلَّ مظهر رُخْوٍ في بيئتِه، ويدرِّب أهله وولده ومَن تحتَ يده على بساطة المظهر مع أَخْذِهم بشدةِ الفكرِ وإيجابياته.. والعنصر الرابع أنْ يُفَرِّقَ بين الثوابت والمتطوِّرات؛ فما كان من الثوابت كحقِّ الله في التشريع، وكضرورةِ اللغة العربية لكياننا: فعليه أنْ يقف دونها موقف المُدافَعَةِ، ولا يقبل المساومةَ عليها.. وما كان من المتطوِّرات؛ فهو خاضعٌ لجدلية النقاش دائماً وأبداً؛ وإلى لقاءٍ قريب إنْ شاءَ الله تعالى، والله المُستعانُ.