د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في الليلة الرابعة من المؤانسة التي تمت بين الوزير أبي عبدالله العارض والأديب أبي حيان التوحيدي، سأل الوزير، الأديب أبا حيان عن أبي الوفاء فاثنى عليه ثناء عطرا، بسبب مواقفه النبيلة منه، فقد كانا يرعاه في معاشه، ويرفع قدره بين نظرائه، كما يقول، ولقد أوفى أبو حيان لأبي الوفاء، وليست الغاية في سرد القصص فحسب، وإنما أخذ العبرة، وتعويد النفس على الفضائل.
وسأله عن أبي ناصر، وأبو ناصر هذا هو فارسي من كبار رجال شرف الدولة البويهية، وكان سفيرا لصياغة اتفاق الصلح الذي عقد بين شرف الدولة، وصمصام الدولة، وصمصام الدولة هو الحاكم في تلك الفترة التي تمت فيها المؤانسة بين الوزير وأبي حيان التوحيدي، وقد هرب هذا السفير من عند صمصام الدولة. واتهم الوزير أبا حيان أنه وراء ذلك الهروب، قائلاً: «ما هرب من فنائي إلا برأيك وتجيسيرك ولا جرأة له على مثل هذا الندود والشذوذ، وقد قال لي القائل أنك من خلصائه» وأقسم أبو حيان أنه لم يكن يلتقي به إلا لماماً، وفي وجود الآخرين، ولمدة شهر واحد، وإنما أحبه لأنه يلبس لباس الصوفية، ومن المعلوم أن أبا حيان صوفي الميول.
ويبدو أن الوزير كان غاضبا من السفير حيث قال: «هذا المتخلف كنت قربته ورتبته ووعدته، ومنيته، وذاكرته حتى أزيده نباهة وتقديمه، وترك هذا كله وطوى الأرض كأنه هارب من حبس، أو خائف من عذاب، وما أكثر من يفر من الكرامة إلى الذلة، ويسير من العافية إلى الهوان وقلما يرى شخصان متماثلان في الظاهر، إلا يتباينان في الباطن».
إأن ما قاله عين الصواب، فسجايا البشر مختلفة، وطبائعهم متباينة، وكل ميسر لما خلق له، وإذا اقتصرت سجايا وطبائع الإنسان على ذاته، فهذا أمر يعود له، إن كان حسنا فحسن، وإن كان سيئا فعلى نفسه، أما إذا كانت سجاياه خبيثة ومتعدية إلى سواه، فإن ذلك أمر غير مقبول، ويمتد أثره إلى من حوله، وقد يمتد أيضا إلى المجتمع كافة.
وكان الوزير قد أرسل رجلا اسمه ابن موسى إلى الوزير الصاحب ابن عباد الموجود في الجبل، وأمر بأن يرافقه الأديب أبو حيان التوحيدي، لكن أبا حيان لم يذهب، فسأله الوزير عن سبب ذلك، فأجابه أن ابن موسى لم يكن على شاكلته، وان ليس هناك أشد هونا من مصاحبة الضد للضد، كما أنه إذن يسمع للوشاية، ويريدون ابن حيان أن يكون عينا عليه، أي أن يكون جاسوسا نماما، وهذا ما لا يقبله ابن حيان على نفسه، وقال إن ابن موسى رجل باطلي أي أنه يأخذ بالباطل والتوهم، وقد يقتل الإنسان بسوء الظن، وهو يخشى على نفسه أن يدهدهه من الجبل.
ويقول ابن حيان إن أدهي من ذلك أننا سوف نفد على الوزير الصاحب بن عباد، وهو رجل أساء إلي وردني، وحاول على لسان صاحبه ابن شاهويه أن يعيدني إليه ثانيا، وكنت أكره ذلك، وما كنت آمن ما يكون منه ومني، والمجنون المطاع مهروب منه بالطباع، وبعد، فليس لي حاجة في مثل هذه الخدمة لأن صدر العمر خلا مني عاريا من هذه الأحوال، وكان وسطه أضعف حملا، وأبعد من القيام به والقيام عليه.
الحقيقة أن الوزير الصاحب بن عباد عالم ووزير مدبر، وذو كفاءة عالية في تصرفاته وعمله، ويعد من أفضل وزراء بني بويه في زمن العباس، لكن أبي حيان التوحيدي متحامل عليه، لأنه لم يقربه ويدنيه، بل إنه أثر أبعاده عنه لأن أبا حيان لا يجيد مجالسة الوزراء، فهو رث الثياب، حاد الطباع. والحقيقة أن أبا حيان قد أصاب، لأن الوزير الصاحب بن عباد مطاع، لكنه غير مجنون، وأبوحيان حاد الطباع، لهذا فإن التوافق غير موجود، ومن الحكمة عدم الذهاب إلى هناك ومقابلة الوزير، فقد يحدث لأبي حيان ما لا يحمد عقباه، وهو يرى أن صدر عمره قد خلا، من خدمة السلاطين والوزراء، ولهذا فإن واسطة عمره أضعف من أن يتحمل تلك الخدمة غير السهلة، وهو يؤثر البعد عن ذلك راحة لياله، ليكون أكثر سعادة وهناء، لا سيما في وسط عمره، ولا شك أن قوله هذا ينم عن نفسيته المضطربة، والتي لا تستقر على حال، وكثيرة التذمر، وقليلة الهدوء، والبعيدة عن الرضا. لا شك أن الوزير الصاحب بن عباد سريع الغضب، وإن أبا حيان حاد الطبع، لكن تظل السلطة في يد الوزير، فهو المطاع، وسرعة الانفعال نوع من الجنون، وربما أن هذا ما كان يقصده أبوحيان في قوله مجنون مطاع، ومهما كان الأمر فالرجلان أديبات، والصاحب ابن عباد، عالم كبير في اللغة ومؤلف القاموس المحيط، وله كتب في العلوم الإسلامية، وفي الطب، والفلسفة، وهو أيضا شاعر له الكثير من القصائد.