لم أتخيل يوماً أن يطلب مني أحد الأصدقاء أن أكتب عن الوالد لأن الكتابة في حضرة الوالد العزيز «نخلة الشعر» تكون مغامرة غير محسوبة.. من أين أدخل للوطن؟! يقول مارسيل خليفة وأنا أقول: من أين أدخل للكتابة عن الوالد وهو سيدها وفارسها، ولكن سوف أقتبس منه استبدال الوصف إلى ذكريات وفي هذا الجانب أتذكر من الوالد موقفين: الأول منذ سنوات الطفولة عندما تحلقنا نحن الثمانية أولاد وبنات حول جهاز تسجيل، نظام البكرات القديم، جاء به أخي إلى البيت وشاهدنا لأول مرة كيف يمكن لأحدنا أن يسجّل أنشودة أو كلمات عابرة ثم يعيدها ذلك الجهاز العجيب بنفس الصوت بشكل مدهش!
كان يوم عيد.. أخذ الوالد (المايكروفون) وقال: «أشعر الآن أنني كأس ممتلئ ثماني مرات في وقت واحد وفي مكان واحد.. لا أستطيع وصف مشاعري أبدًا ولكن أستعيد ذكرى.. في صغر عادل ورياض كانا يتصارعان في ساحة البيت، فكتبت هذه القصيدة:
طفلاي يصطرعان.. وقفا يهزجان واللهو في عينيهما طائر يكاد يفر.. إلخ»
والصورة الثانية كنت أبحث في (اليوتيوب) وأصبت بصدمة حقيقية (بيوتيوب) للوالد أراه لأول مرة يلقي قصيدة في تأبين الشاعر الكبير السيد مصطفى جمال الدين في أربعينيته في دمشق عندما قال الوالد: «هذه ليست رثاء.. هذه نافذة تطل على الزمن» وألقى القصيدة: «ها هنا الحب والصبا النشوان والأماني المغردات الحسان ... إلخ»
من خلال هاتين الصورتين لا أستطيع أن أتحدث عن الوالد، فمن أين أبدأ ومن أين انتهي، ولكن على طريقته سوف أستعير من دهاليز الذاكرة بعض الصور التي لن تزول من ذاكرتي ما حييت وسوف أبدأ بالأجمل والأعز على قلبي ثم أختم بالطريف المضحك.
الصورة الأولى التي أعتبرها من أعز وأجمل ما مر في حياتي هي حفلة زواجي في صيف 1985.. الرجاء لا تعدوا أو تفكروا في الرقم كثيراً.. كنا نحن العائلة في اجتماع عائلي بسيط لترتيب حفلة زواجي، كنت أول من يتزوج من الأولاد، واتفقنا على أن تكون حفلة صغيرة وخاصة جداً، يقوم كل واحد من العائلة بدعوة اثنين أو ثلاثة على الأكثر من أعز أصدقائه، وليكونوا منفتحين للجو العائلي، ولم يقصر الإخوان في ترتيب احتياجات الحفلة.
ليلة الحفلة حضر صديق الوالد وصديق العائلة الأستاذ علي الدميني وحضر إسحاق الشيخ -رحمه الله - ودعوت الصديق العزيز عبدالعزيز مشري -رحمه الله - ولكن لم يحضر لمرضه وإنما حضر أخوه نيابة عنه وحضر صديق الوالد وصديق العائلة وكان أخاً أكثر منه صديق الشاعر المرحوم شاكر الشيخ، وحضر صديق عزيز من زملاء الدراسة وبعض الأصدقاء الآخرين وكانت سهرة تكتب بماء الزعفران من جمالها وروعتها.. خلالها قدم لي الوالد أجمل هدية في حياتي كانت قصيدة مهداة لي بمناسبة الزواج.. وهل هناك أجمل؟
أما الصورة الثانية فكانت عندما رحلنا من العراق متجهين إلى الأردن.. كان عمري خمس سنوات وكنا محشورين كأننا داخل مستودع! الوالدة -رحمها الله - ونحن سبعة في سيارة (بكس) مع ثيابنا وأغراضنا وكان السائق ضعيف النظر يضع نظارات سميكة ويسوق في الليل فارتطم بحجر كبير من مخلفات سيارات الشحن أدى إلى تعطيل السيارة لساعات طويلة ثم سحبها في ذلك الليل إلى أقرب مدينة لا أتذكرها ولكن أتذكر أننا جلسنا، الوالدة ونحن على بساط على الأرض قرب باب كراج السيارات حتى تم اصلاح السيارة. بعد يومين وتابعنا الرحلة إلى الأردن.. عندما وصلنا إلى الفندق دخلنا نتبع الوالدة إلى الغرفة وكانت المفاجأة: جاء إلينا الوالد فاتحاً ذراعيه بشوق وفرحة غامرة وضمنا جميعاً إلى صدره.. كان عليه أن يغادر العراق بسرعة في ظروف سياسية مضطربة أعتقد في 1962 أو 1963 فالتحقنا به بتلك الرحلة العجيبة.
الصورة الثالثة كانت أيام كنت طالباً في جامعة الرياض عندما سافر الوالد من الدمام إلى الرياض في رحلة عمل وسكن في فندق إنتركونتيننتال.. وقتها من كان سعيد الحظ ليدخل هذا الفندق؟!
من محاسن الصدف أن الوالد كان في ضيافة جهة رسمية.. ولكن لا أعرف من تورط وقال للوالد بإمكانك أن تدعو على العشاء من تريد من الأبناء أو الأصدقاء.
فقال لي تعال أنت وأصدقاؤك في سكن الجامعة!؟ جئت حسب الموعد مع سبعة أو ثمانية أصدقاء مقربين وكان منهم من يتابع كتابات الوالد.. أدخلونا على البوفيه العامر بالمأكولات الشهية التي لا نحلم بها وهجمنا على البوفيه هجوم الذئاب المفترسة.. كان العاملون في المطعم يراقبوننا بدهشة ولكن كنا مثل العميان لا نرى سوى تلك المائدة العامرة ونسمع التشجيع: ترى بوفيه.. عبّي الصحن مرة ثانية؟! وكان الوالد العزيز فرحاً، بشوشاً، ويشاركنا الضحك والنكات ويوصينا بعدم الخجل؟!
الصورة الأخيرة لكي لا أطيل مع أن لدي مخزوناً من الذكريات الرائعة المفعمة بالشعر والأوتار والسمر ربما تجد يوماً طريقها إلى النشر.. لكن الصورة الأخيرة التي اخترتها كانت أيضا في الرياض في منزل الكاتب محمد رضا نصرالله، عندما دعا الوالد إلى منزله ودعاني معه مع صديقين عزيزين..
ذهبنا ذلك المساء وابتدأت السهرة بالنكات والسخرية والهرج في الصحافة والإعلام ثم تطور النقاش إلى الشعر والأدب في محاولات من محمد رضا توجيه النقاش نوعاً ما ولكن الوالد كان مرتاحاً ويرغب في جلسة بسيطة غير جادة.
كان عند محمد رضا ضيف هو الحكم الرياضي (سمبل) يقال إنه توفي -رحمه الله - وكان لديه مباراة في اليوم التالي لذلك كان يستعجل في المقبلات!
سألني محمد رضا: تعرف تطبخ؟
قلت له نعم فقال عندنا لحم ودجاج..
قلت له مافي مشكلة اللي تحب..
قال لحم ودجاج مع بعض..!
لم أستغرب قلت له تمام؟! وضعت اللحم لمدة ساعة ثم أضفت الدجاج لقدر اللحم لمدة ساعة أخرى وبقدرة قادر كان الطعام روعة والكبسة لحم ودجاج شبه جاهزة. أخذنا الحديث والسمر والضحك وبعد مدة من الوقت ذهبت لتجهيز السفرة رأيت الحكم ممدد على الأرض ويشخر شخير يصل إلى عليشة!؟
الحكم أكل أكثر من نصف القدر رحمه الله ولم يستطع أن يصل إلى السرير فقرر النوم في الممر!؟
هذه بعض الصور وهناك الكثير الكثير من الصور الجميلة والمواقف الكبيرة للوالد لا يتسع هذا المكان لذكرها..
الوالد العزيز زرع فينا الكرامة وعزة النفس والإنسانية وحب الخير والتواضع.. إننا مدينون له بكل ما نملك وأهم شيء أننا مدينون له أن نرفع رؤوسنا شامخون به وبنضاله وبصبره وبقلمه وحنانه وعطفه الكبير.. كل إشراقة خميس ننتظر مقالك بشغف وما زلنا ننتظر منك قصيدة جديدة تبعث الأمل..
** **
- علي العلي