-1-
كتب كثيرون عما يجب على طالب الدراسات العليا في الجوانب المعنوية كالإرادة والإخلاص والاجتهاد، والجوانب العلمية والفنية المتعلقة بالنشاط البحثي، وقد فصّلوا فيها فلم يتركوا مساحة لإضافة!
لكن ما واجبات الجامعة والكلية والقسم العلمي والأستاذ المشرف تجاه طالب الدراسات العليا؟
هذا السؤال لم يحظَ – في حدود متابعتي - باهتمامٍ كافٍ، بل يمكن القول إنه ما زال مهمّشاً ومتروكاً للمبادرات الفردية، وجُلُّ ما طُرِحَ تحت (سياسيات تشجيع البحث العلمي) أو (تحفيز الباحث) يستهدف العملية البحثية لا الباحث، ويتصل بالأدوات والمهارات لا بالروح ولا بالشغف.
إنها فجوةٌ لا أدري كيف تشكّلت، ولا أعرف سرَّ التجافي عن معالجتها مع كثرة الجامعات واتساع التجارب وتنوّعها، لكنني أزداد قناعة مع الأيام بأنها أحد العوامل الرئيسة في ظاهرة ضعف الرسائل العلمية في جامعاتنا، وسببٌ رئيسٌ في تجفيف الرغبة، التي كانت وما زالت وستظل وقود العلم والمعرفة بوجهٍ عام، والنشاط البحثي بوجهٍ خاص.
-2-
التحفيز، تأسيس الثقة بالنفس، بناء الشخصية، التشجيع على الاختلاف..
هذا أكثر ما يحتاجه طالب الدراسات العليا ولا سيما في مرحلة (الماجستير)، وبصورةٍ أكثر إلحاحاً حين يدخل هذا المجال بعد مرحلة (البكالوريوس) مباشرة، وأكاد أجزم أنه عاملٌ رئيس في جميع التجارب البحثية المشرقة، وإن لم يكن الطالب نفسه على وعي بهذا.
ويمكن أن أستشهد هنا بالعلاقة التي كانت تربط بين الراحِلَيْن الدكتور شكري فيصل ومشرفه في مرحلة الماجستير أمين الخولي، وكيف كانت علاقة علمية ندية، وليست هَرَميّة مشغولة بالإداري وفوارق السنّ والقيمة والتجربة، علاقة جادة قائمة على تنامي الأسئلة وتشظّيها، ومنحازة إلى (الإشكالي) أكثر من غيره.
لقد اكتشف شكري فيصل بعد سنوات من حصوله على الدرجة الأثرَ الكبير لأستاذه في شخصيته؛ لذلك اختار عند طباعة رسالته «مناهج الدراسة الأدبية» الحديثَ عن الخولي حديثاً يصلح للاستشهاد في هذا السياق، يقول فيصل:
«كنتُ ألقى أستاذي الأسبوع بعد الأسبوع والمرة بعد المرة، فأتحدث معه وأستمع إليه وأناقشه وأفيد منه، ووجدتني بعد ذلك أرتضي منه شيئاً وأخالفه في شيء، وأحاوره في مسألة وأجادله في غيرها، حتى انتهى بنا الأمر إلى شيء كبير من خلافٍ في الرأي وتباينٍ في الطريق. ولم يكن شيءٌ من هذا الخلاف ليخيفني؛ ذلك أن أول مراحل صلتي بأستاذي وتعرفي إليه اشتُقّت من خلاف، ولكنها لم تنم بعد ذلك عليه ولم تعشْ له، وإنما كانت تقترب منه حيناً أو تتباعد حيناً... وصَبَر الأستاذ الخولي على هذا الخلاف صبرَ المطمئن إلى رأيه من نحو، والمطمئن إلى صاحبه من نحو آخر، واصطبرتُ كذلك اصطبار الواثق بنفسه، والواثق بأستاذه أنه لن يخلفه أول الخطوط التي التقيا عندها واتفقا فيها؛ لأنها أول الخيوط التي تقوم عليها الحياة والتي لا تقوم حياةٌ إلا بها، وذلك هو إتاحة الحرية في الرأي أبعد الحرية، وإتاحة المخالفة في النظرة أشد المخالفة، والاعتماد على أن الغاية من الإشراف ليست تكرار النماذج المتماثلة، وإنما هي إحياء العناصر الشخصية وتنمية الفردية الذاتية، والبلوغ بالقوى إلى أقصى غاياتها وأبعد مراميها».
لم يتحدث شكري فيصل في مقدمة هذا الكتاب إلا عن شخصية مشرفه وأثرها فيه، ولم يُعنَ من أمر العلاقة بينهما إلا بإدارته الواعية للاختلاف، ومنحه التلميذ فرصة التخلُّق علمياً على عينه وبين يديه، وقد رأى فيصل مع الأيام أن هذا المبدأ هو الذي مدّ أمامه أفق التجربة والبحث والحياة!
-3-
في مقابل هذا النموذج الإيجابي الذي مثّلته العلاقة بين الخولي وفيصل نعاني من غلبة نموذجين سلبيين في الإشراف على الرسائل العلمية:
- المشرف الذي يرى أن الطالب بحاجة دائمة إلى التصحيح والتوجيه إلى حد تسييجه ليكون ظلاً أو صدى.
- والمشرف الذي لا يرى أن الطالب بحاجة إلى شيء من هذا.
بفضل هذين النموذجين ضاعت فرصٌ بحثية، وانطفأت طاقات، وشاخت مواهب، وما يُقال عنهما في الإشراف يقال عنهما في المناقشات العلمية، فهي – في جانبٍ واسعٍ منها - إما نارٌ موقدة تأكل شخصية الطالب علانية، وإما حفلة زفاف علمي على سجاد أحمر!
بين الاثنين تحديداً تقع صورة التشجيع الواعي، وهو التشجيع الذي يعترف بحاجة الطالب إلى الدعم والتوجيه والتقويم، وحاجته بالدرجة نفسها إلى الاستقلال وفرصة التدرّب عليه، وبدون هذين المتطلبين لن نخرج من تجارب الدراسات العليا إلا بطالب تابع محطّم أو طالب دعي متعالم، ولا يجوز أن نبدو متفاجئين بعدها حين تتراكم الرسائل العلمية ولا نجد فيها راحلة!
إنّ تشجيع طالب الدراسات العليا لا يكون بالكلمات الباردة، ولا بخداعه أو النفخ فيه من روح الوهم، بل بمنحه الثقة، وإشعاره بالجدية، وتحميله المسؤولية، ورسم خطة جادة للنهوض به، وتقويم شخصيته من حين إلى آخر، وفحص عدته وأدواته، وتمكينه ليكون نِداً لأستاذه في نطاق بحثه على الأقل، ودفعه إلى الاختلاف دفعاً، والتنازل له عند تمسكه برأيه مادام له مسوّغٌ من منهج أو منهجية أو نظرية.
هي - بلا شك - منطقة مَنْسِيّة في رحلة طالب الدراسات العليا، وتحديداً في العلاقة بينه وبين مشرفه، تحتاج اليوم إلى عمل جاد، وما لم تلتفت إليها الجامعات بالمعالجة ستظل النتيجة هي النتيجة:
- وفرة في البحوث.
- وندرة في الباحثين!
** **
- د. خالد الرفاعي