كثيراً ما يوصف الفنانون بالحداثة أو التراث، وهو خطأ جسيم يرتكبه معظم الكتَّاب والإعلاميين دون حرج. فالتقييم الأفضل حسب المنهج الفلسفي هو للعمل وليس للشخص! فالحداثة في الفلسفة هي: كل قول أو عمل أو كليهما ينزع باتجاه التطور الاجتماعي.
من هذا المفهوم للحداثة لا يمكن القبول بوضع ختم على الأشخاص بأنهم حداثيون أو تراثويون! إنما نفس الشخص قد يقدم قولاً أو عملاً حداثياً أحياناً، وتراثوياً أحياناً أخرى. والعمل ذاته ليس حداثياً أو تراثوياً «مطلقاً»، إنما يقيم نقدياً بمقدار بعده أو قربه من الحداثة أو التراثوية! ولذلك لا يمكن فهم الحداثة من خلال التعريف وحسب! إنما لا بد من الإضائة على أبعاد الحداثة.
الحداثة نشأت بنشوء المجتمع البشري. أي أن المجتمع البشري عندما تشكل وجد نفسه في «حركة» دائمة. وهذه الحركة إما أن تكون إلى الأمام «حداثة» ويتطور المجتمع ويزدهر، وإما أن تكون إلى الوراء «تراثوية» فيتدهور المجتمع ويندثر في نهاية المطاف! أي أن المجتمع البشري «مجبول على الحركة» ولا وجود لمجتمع ثابت إلا في مخيلة البعض. ولذلك سعى جلجامش حسب أسطورة وادي الرافدين (9 آلاف سنة قبل الميلاد) للعثور على «شجرة الخلد» التي تبقي حياة مجتمعه وهو الملك، مستمرة إلى الأبد. وبعد رحلة شاقة اكتشف أن «العمل» هو الذي يخلد الإنسان وليس الشجرة مهما كانت ثمارها!
الحداثة ذاتها ليست «ثابتة»، فقد تغيرت قبل «الحضارة» وبعدها. فقد كانت قبل الحضارة هي «المحرك» الوحيد للتطور الاجتماعي، أما بعد الحضارة؛ وظهور الملكية الخاصة، وأصبح هناك من يملك ومن لا يملك، فقد تراجع دورها كمحرك للتطور الاجتماعي وقفز للواجهة ما يُسمى بـ «الصراع الطبقي»؛ الذي أخذ الأولوية في الحركة الاجتماعية.
بيد أن الفارق التاريخي الكبير بين الحداثة والصراع الطبقي يظهر حقيقة لا مناص منها؛ وهي أن الصراع الطبقي ظهر في حقبة تاريخية معينة؛ وكل ظاهره اجتماعية لم تكن موجودة منذ بداية تكوين المجتمع البشري؛ وظهرت في حقبة تاريخية ما؛ لا بد أن تندثر في حقبة تاريخية أخرى؛ ولابد من الاعتراف بأن الصراع الطبقي قد اندثر عمليا في عصرنا الحالي؛ وحل محله صراعا جديدا؛ اسمه الصراع الاستعماري أو صراع «الهيمنة على العالم». وقد عاد دور الحداثة الأساسي كـ «محرك» للتطور الاجتماعي بدون منازع؛ وأصبحت الحداثة هي «الضرورة» التي لا مناص منها ليس لكل مجتمع لوحده؛ إنما لكل المجتمع البشري بعد أن أصبح الصراع «شمولياً أو كونياً».
للحداثة أدوات تؤثر بها؛ وتتأثر بها؛ فالهندسة والطب والعلوم الأخرى؛ وكذلك الأدب شعرا ونثرا؛ والفنون بكل أنواعها؛ وخطط التنمية البشرية والاقتصادية؛ والتطور التكنولوجي؛ كلها أدوات لـ «الحداثة». وبقدر ما تبعث الحاثة الروح والطاقة اللازمة لتطور تلك الأدوات؛ فالأدوات بدورها توسع مفهوم الحداثة ودورها في التطور «العولمي» البشري اللاحق؛ أي أن الحداثة هي الحياة ذاتها! والأعمال الحداثية هي تلك التي تطمح لاستمرارية الحياة وازدهار المجتمع البشري؛ أما الأعمال التراثوية؛ التي تنتقي من التراث ما يعيق الحياة؛ فهي إن نجحت - وهذا مستحيل - فستفوز هي وشذاذ الآفاق؛ بنهاية الحياة واندثار المجتمع البشري!
بقي بعد آخر لا بد من الإضاءة عليه، وهو أن الفن هو رافد من روافد النهر الكبير المسمى حداثة! ومن الأخطاء الشائعة هي جعل الحداثة وكأنها مرتبطة بالفن فقط! والأنكى من ذلك أن شذاذ الآفاق الدوليين؛ يحاولون توجيه مفهوم الحداثة باتجاه واحد؛ وهو التطور التكنولوجي! وهذه ليست حداثة منقوصة وحسب، بل جرى على أساسها ظهور الفكر المتطرف! فإشاعة أن الرأسمالية هي نهاية التاريخ، هو طرح يقوض مفهوم الحداثة؛ ويروج للاستسلام للظلم الدولي والإقليمي والمحلي!
** **
- عادل العلي