يشكل مظهر التعالق النصي مع التراث وشعرائه ظاهرة بارزة متميزة في الشعر العربي الحديث. ومجرد نظرة سريعة يلقيها الباحث على صفحات التجربة الشعرية الحديثة والمعاصرة في المملكة العربية السعودية، تكشف له أن مظهر التعالق مع شعر التراث العربي يمثّل القاعدة الكبرى التي قامت على أرضيتها ظاهرة التعالق النصي برمتها، والرحم الولود الذي أنجبها وأخصبها ورعاها. وهذا أمر بدهي، فشعر التراث هو الأصل العربي الذي تفرّعت منه شجرة الحداثة الشعرية في الوطن العربي شبه الجزيرة العربية باتساعها التاريخي العريق والمعروف. لذلك يندر أن يجد الباحث شاعرًا من شعراء المملكة أو الوطن العربي لم يتصل على نحو من الأنحاء بشاعر جدّ من شعراء التراث العربي، أو يتقاطع معه أو مع أحد نصوصه أو بعض أبياته تقاطعًا مضمونيًا أو لغويًا أو إيقاعيًا، أو كل ذلك في بعض حالات الاحتذاء أو المعارضات الشعرية.
إن الشاعر محمد العلي، عميد الشعر السعودي الحديث، يشتبك منذ وقت مبكر من تجربته الشعرية مع التاريخ العربي من خلال قصيدته (خطيب الجراح)، التي كتبها عام 1961م، كما نجده يشتبك اشتباكًا إيقاعيًا مقصودًا (على مستوى الوزن أو القافية والمجرى) مع قصيدة المتنبي المعروفة (عيد بأية حال عدت يا عيد). وذلك في قصيدة كتبها العلي عام 1962م عنوانها (غارة الفجر) مهداة إلى الفيلسوف الكندي في عيده الألفي ومن أبياتها:
ذكراك أودية غنَّاء ليس لنا
منها سوى أن يجيد الوصفَ غرِّيدُ
وإن أشواطنا تعدو بدائرة
جوفاء ليس بها قصد وتسديدُ
حالت مفاخرنا الجلَّى فعدتنا
رؤى وأسيافنا الغرقى أناشيدُ
لذلك نجد محمد العلي يفصح عن قصده من تعالقه الإيقاعي بقصيدة المتنبي، حين ختم قصيدته تلك بطالع قصيدة المتنبي وبيتها المشهور على سبيل التضمين مشيرًا إليه بقوسين. هكذا:
(عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم بأمر فيك تجديد)
وتكاد تكون معظم قصائد محمد علي المنظومة على الشكل التراثي البيتي تمثِّل تعالقًا إيقاعيًا ملحوظًا أو خفيًا مع أوزان نصوص شعرية من التراث العربي. ويمكن التمثيل على ذلك، إضافة إلى قصيدة المتنبي المذكورة، بقصيدتيه الموسومتين: (خطاب إلى العام الجديد) و(غربة). ففي كتلا القصيدتين ينسج الشاعر على المنوال الإيقاعي (وزنًا وقافية ومجرى) لقصيدة أبي العلاء المعري المعروفة التي مطلعها:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شادِ
ففي القصيدة الأولى يقول العلي:
أيها العام، يا كنوزًا ستنساب
إلى قطفها أكف العبادِ
فهنا واحة من الحب تنداح..
أشاحت عنها رياح العبادِ
ويقول في مطلع قصيدته الثانية (غربة):
ها هنا حيث لا يرى الحب والشوق طريقًا إلى قلوب العبادِ
ويفر الصباح خوفًا من الأعين حتى كأنها من قتادِ
ولم تخرج تجربة محمد العلي من مصيدة هذا التعالق الإيقاعي المنقاد للقصيدة التراثية بميسمها الوزني وبصماتها الإيقاعية والبلاغية البارزة، إلا بعد أن تم تحريرها من قيود وحدة البيت الوزنية وإطلاقها في فضاءات موسيقى التفعيلة بشكلها المنطلق. ولا شك أن العلي كان يدرك هذه الحقيقة الفنية البسيطة، لذلك كان يعمل جاهدًا على تحقيق عملية التجاوز من قيد البيت إلى فضاء القصيدة الحرة، على المستوى الإيقاعي في الأقل.
وبالتحرر من قيود الوزن تحررت عملية التعالق فعلًا في تجربة محمد العلي، وصارت أكثر اتصالًا بالمضمون الشعري وبتشكيل القصيدة وبنائها الفني والفكري المفتوح. ولم تعد محصورة، كما كانت، في التعالق الإيقاعي المتصل بالوزن والقافيةوالمجرى على النحو الذي تمت ملاحظته.
وكان التعالق مع شعراء التراث العربي عبر أشهر أبياتهم وقصصهم التاريخية، من أبرز أنواع التعالق النصي التي يمكن ملاحظتها في قصائد محمد العلي المكتوبة بالشكل الحديث. فها هو ذا طرفة بن العبد يحتل، بشفافيته الرمزية، مجمل بناء قصيدة (هيلا، هوب، هيلا)، تشاطره خولة الحبيبة الرمز حضوره الفني الرامز، على النحو الذي يبرزه هذا المقطع الدال من القصيدة:
وناضجة لآلئ قاعك الأبكار والأنواء
وسمراء (ابن يا من) لم تزل سمراء
يحدوها وينثر فوقها (النهَّام) من أصدائه الخضراء
وخولة.. غيمة تصغي إلى الميناء
وفي أجفانها تتمدد الواحات
غدًا - هيلا - تعيد (لخولة الأطلال)
أبراجًا ربيعية
وتشيع في هذا المقطع، كما هو واضح، ومضات من أبيات معلقة طرفة التي مطلعها:
لخولة أطلال ببرقة ثهمدِ
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ
وفي قصيدة (غابة الصدأ) إشارات عابرة إلى امرئالقيس وبيته الشهير (مكرٍّ مفرٍّ مقبل مدبرٍ معًا) وإلى (غيلان ميَّة) ذي الرمة وحبيبته. كما أن في قصيدة (آه.. متى أتغزل؟) ذكرًا صريحًا للمتنبي وإشارةرمزية إلى بيته المشهور (الخيل والليل والبيداء تعرفني).. هكذا:
قف بي مليًا أبا الطيب
واقرأ علي الجراح التي قد تركتَ بها مصر
كانالجواد هو الليل
غادر دون صهيل
وأغمدتَ جرحك بالشعر
ويفعل محمد العلي الشيء نفسه في قصيدة (كنت تقرأ شعرًا) التي يذكر فيها الشاعر الصعلوك عروة بن الورد ذكرًا صريحًا ويومئ إيماء رمزيًا إلى بيته الشهير:
أقسِّم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء باردُ
وذلك في قوله:
كان عروة منحنيًا يصف الماء
حين يكون قراحًا
وينكر من جسمه ما توهج فوق صغار القبيلة
هذه لمحات تعالقية بارزة منتزعة من القصائد القليلة (22 قصيدة) التي نشرها الدكتور شاكر النابلسي في ملحق كتابه الموسوم (نبت الصمت) الصادر عام 1992م. ولديَّ شخصيًا عدد من القصائد المخطوطة للشاعر لم يتضمنها الملحق المذكور. وغني عن القول إن محمد العلي كان ولم يزل يرفض نشر قصائده بين دفتي كتاب مطبوع!.
«ولعله لا يريد ذلك في حياته، على، ما يبدو، تاركًا هذا الأمر للذي يأتي من بعده» كما يقول النابلسي(1).
لقد وظف العلي أسماء الشعراء العرب وأقوالهم وحكاياتهم التاريخية في تعالقات رمزية بارزة تتسم بالشفافية، وكأنه بذلك كان يتحسس جذوره المرجعية التي وَلَدَتْ تجربته الشعرية وشكلت مكوناته النفسية والوجدانية والفنية. فامرؤ القيس وذو الرمة والمتنبي وعروة وطرفة والمعري وغيرهم من الشعراء، يمثلون ينابيع الوعي الأولي في تكوين تجربة محمد العلي. وقد أضاف إليهم روافد جديدة من الشعر العربي الحديث وشعرائه من الرواد على نحو خاص كالشاعر العراقي بدر شاكر السياب الذي كان العلي يحفظ ديوانه (شناشيل ابنة الجلبي) كاملًا عن ظهر قلب، كما يروي النابلسي عنه(1). ولظاهرة التعالق النصي بين محمد العلي وبدر شاكر السياب ملامح طريفة وتجليات غنية أرجو أن تتاح لي الفرصة المناسبة لمقاربتها مقاربة نصية معمقة تتناسب مع أهميتها.
... ... ... ... ...
(1) شاكر النابلسي، نبت الصمت، العصر الحديث للنشر، بيروت، ط1، 1992م، ص100.
** **
أ. د. علوي الهاشمي