روى محمد أمين بن فضل الله المحبِّي؛ مؤلف كتاب (خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر) عن محمد بن علاء الدين البابلي أنه كان ينهى عن التأليف، ويقول: «التأليف في هذه الأزمان من ضياعة الوقت، فإن الإنسان إذا فهم كلام المتقدمين الآن واشتغل بتفهيمه فذاك من أجلِّ النعم، وأبقى لذكر العلم ونشره. والتأليف في سائر العلوم مفروغ منه». وإذا بلغه أنَّ أحدًا من علماء عصره ألف كتابًا يقول: «لا يؤلف أحد كتابًا إلا في أحد أقسام سبعة، ولا يمكن التأليف في غيرها، وهي: إما أن يؤلف في شيء لم يسبق إليه ويخترعه، أو شيء ناقص يتممه، أو شيء مستغلق يشرحه، أو طويل يختصره، دون أن يخل بشيء من معانيه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مصنفه يبينه، أو شيء مفرق يجمعه».
ولخص المحبي كلام البابلي بقوله: «ويجمع ذلك قول بعضهم: شرط المؤلف أن يخترع معنى أو يبتكر مبني».
وأحسب أن البابلي قد أشرع الباب من حيث أراد إغلاقه، لأنه جعل للكاتب إن لم يؤلف جديدًا أن يكتب ردَّا. وهذا ما يفسر لنا كثرة المصنفات وتعداد المجلدات عبر القرون، وهو ما يجعل أبوابها غير قابلة للحصر، تتجدد بحسب الأحوال، فكلما فشا في المجتمع مذهب، أو ظاهرة أو عادة تصدى لها المؤيدون والمعارضون على السواء، هذا يؤلف مسوغًا ومؤيدًا، والآخر يؤلف شاجبًا ومفندًا.
وكثير من مؤلفات السلف - وحتى الخلف - تأتي لحاجة مجتمعية، فحين كثر الرقيق في القرن الخامس الهجري ألف الطبيب البغدادي ابن بطلان رسالته في (شراء الرقيق وتقليب العبيد)، وحين استشرت الظاهرة مجددًا في العصر العثماني ألف محمد الغزالي - من رجال ذلك العصر - كتابه (هداية المريد في تقليب العبيد)، وحين انتشرت أعمال الشعوذة والحيل والتكسب عن طريقهما، انتشرت بالمقابل الكتب التي تكشف هذه الحيل والألاعيب، فألف ابن شهيد كتاب (كشف الدك وإيضاح الشك) وغيرها من الكتب التي توضح ما غمض من ألعاب الخفة.
وفي عصرنا الحديث رأينا من يؤلف في السبحة و(الكبك) والصعود للقمر، وحين تفشت بيننا الحداثة رأينا من تصدى لها بكتابه الشهير (الحداثة في ميزان الإسلام).
وفي أيامنا الحاضرة استجد سبب للتأليف لم يكن معروفًا في أي عصر سبق؛ ذلكم هو حبُّ الظهور، إذ نجد كتابًا لا يحمل جديدًا، وليس شرحًا لمختصر ولا تلخيصًا لمبسوط وليس انتصارًا لرأي ولا تسفيها له - كما في كتب الأولين - فلا سبب لتأليفه غير حب الظهور، يستوي في ذلك الكبير سنًّا والصغير والرجل والمرأة. وأمامكم معرض الكتاب ستجدون فيه نماذج كثيرة لما ذكرت؛ كتبا أدرجت ضمن حركة التأليف في المملكة العربية السعودية بأسماء أصحابها الذين تحول كل منهم إلى مؤلِّف، حصل بمؤلَّفه هذا على جواز سفر يستطيع بوساطته التنقل كيفما شاء بين مدن الأدب.. ومن ذا الذي يستطيع بعد هذا الإصدار أن يشكك في أنه (مؤلف) و(كاتب) بل و(أديب)؟!.
وأكثر عجبًا من هؤلاء حين تتنافس الأسر على دفع أطفالها لارتقاء منصات التوقيع في معارض الكتب لقصص وكتب لم يكن لأطفالهم من نصيب فيها سوى أسمائهم.
إن تشجيع الصغار يكون بتحبيبهم للقراءة أولًا، حتى إذا أصبحت لديهم القدرة على القراءة والفهم والاستيعاب والتفكير بدأنا في تمرينهم على الكتابة شيئًا فشيئًا.. لكننا بدفعهم للتأليف قبل القراءة نُهوِّن عليهم التأليف، وكأننا نقول لهم: إنه لا يحتاج إلى عوامل مساندة سوى التشجيع!
وفي الوقت الذي أعبر فيه عن رأيي بأني لست مع التسرع في التأليف، فأنا أيضًا لست مع الإحجام عنه عندما يملك الكاتب القدرة عليه، لأن إحجام القادرين يفتح المجال لتصدر غيرهم..
** **
- سعد عبد الله الغريبي