في بداية التسعينات الميلادية طرق سمعي اسم محمد العلي، حيث كنت حينها في المرحلة الثانوية، والقصة بدأت من عشقي للشعر، وحضوري المتواصل للأماسي الشعرية، ففي أمسية من الأمسيات كان الشاعر جاسم الصحيح سيِّد المنصة، وحينما سئل عن الشعراء الذين يقرأ لهم، امتشق الإجابة، وقال: الآن محمد العلي، وكعادته حينما يعجب بشيء يظهر ذلك على لسانه دون تحفظ من أحدٍ، وبمديح طفولي لا يتقن الزيف، كنت من الذين يكنُّون للصحيّح الكثير من الإعجاب والامتنان؛ لأنَّه فتح لنا نوافذ كثيرة وما زال.
منذ هذه الإجابة والسؤال في داخلي يشق الطريق نحو مجرَّة محمد العلي، لم تكن هناك علامات أو معالم بارزة؛ أعني إصدارات أدبية أو شعرية لمحمد العلي، كنت أبحث في الجرائد وقصاصات الورق عن كل ما له علاقة به، فمن كتاب «نبت الصمت» للنابلسي، إلى جريدة اليوم والرياض والجزيرة وعكاظ والحياة ومجلة اليمامة وغيرها، بالإضافة إلى كاسيتات المحاضرات والمقابلات، إلى زيارة أولى لمحمد العلي مع بعض الأصدقاء تقريبًا في عام 1997م حاورناه فيها وقرأنا عليه قصائد، وكان صادمًا في بعض آرائه ومتفاعلًا مع القصائد حدَّ أن يشعل القصيدة بالتصفيق وعبارات الإعجاب، وتوالت بعدها زيارات أخرى.
استمر البحث عن نتاجه إلى الكويت وتحديدًا في إبريل 1999م حيث كان شغفٌ يأخذنا أنا وصديقي جابر الخلف إلى صحيفة الوطن الكويتية للحصول على (قراءة ساخنة في كتاب بارد) ردًّا على كتاب الحداثة في ميزان الإسلام للشيخ عوض القرني، وقد نُشر الرد مطوَّلًا على أربع حلقات في أعداد مختلفة (13، 14، 20، 21 مارس) 1989م، وقد تم تصويرها من (الميكروفيلم)، ولم نحصل على الأعداد الورقية، طرنا بهذه الحلقات كمن وقع على كنزٍ.
وإلى العراق في يوليو 2002م كانت هناك زيارات متوالية للمكتبات، ولأصدقاء الأدب اليقظ (د. صالح الظالمي) الذي استضافنا، أنا وصديقي جابر الخلف، في منزله وتزوَّدنا منه بقصص وقصائد عن أسرة الأدب اليقظ، وكان محمد العلي أحد أعضائها، فعدنا محمَّلين بما وقع تحت أيدينا من قصائد ومجلات تخص أسرة الأدب اليقظ.
ومن محطات أخرى في طريق البحث وعلى مدى طويل كوَّنت لنفسي أرشيفًا ضخمًا من المقالات والقصائد والمحاضرات، ما زال يكبر حتى اليوم، لم يكن أرشيفًا وحسب، فقد كان لي سميرًا في الليالي وأوقات الفراغ، أيقظ الفكر، وأشعل فتيل التساؤل، ودفعني إلى مغادرة الكهف، ومصاحبة الحيرة الساطعة.
لم أكتفِ بهذا، ففي كل قراءة ينمو شغف آخر للبحث، وتُفتح أمامي نوافذ تقود إلى ما يدهش ويُوحش، فتنبت في أطرافي أجنحة لاصطياد الدهشة، وتهرب مني تعاويذ القلب في مواجهة الوحشة.
كان الهاجس الأول أن أحصل على كل ما كتبه محمد العلي منذ أول مقالة إلى آخر حرف؛ لأنَّ ما يكتبه هذا الأديب مختلف عمَّا نقرأ، كما أنَّ مقالة منه تغنيك عن قراءة كتاب، تشدُّك فيه الصراحة والنقاء ونداء الفطرة، واحترام القارئ، فهو مثال المثقف المستقل الذي يبني رؤيته وموقفه هاربًا من سجون كثيرة، مبتعدًا عن المصالح الشخصية والمناصب، متسلِّحًا بلغة تعرف كيف تسير على الحبل دون أن تهوي! إنه مثقَّف لا يعلق آراءه على جدار التملّق والمديح الزائف.
لكن هذا الهاجس الاحتوائي لكل شيء لن يتحقَّق في استقصاء هذا النتاج المبعثر والذي ساهم العلي نفسه في إبقائه مشرَّدًا دون أن يُؤوِيه إلى بيت اسمه كتاب أو ديوان أو على الأقل يعتني به في مخطوط؛ تركه مشرَّدًا لأسباب شخصية يعبِّر عنها مرة بالشعور باللا جدوى، ومرة بالكسل، وثالثة بالخشية من تحجيم التجربة ثم التوقف، وبرغم ما وثَّقت الصحافة المحلية والخارجية والإعلام المسموع والمرئي من مقالاته وحواراته وقصائده التي امتدت إلى ستين سنة تقريبًا، إلا أنه توثيق مبعثر يحتاج إلى جهود كبيرة لتحريره وطباعته، ورغم ما جُمع له مؤخَّرًا من مقالات مطبوعة وأشعار ضمّت تقريبًا ثمانية كتب على ما فيها من أخطاء مطبعية وفوضى إخراجية، إلا أن ما جمع أقل بقليل من أرشيف العلي الذي لو قيِّض لمؤسسة ثقافية أو لأشخاص مسؤوليَّة لملمته وطباعته كاملًا، لخرجنا بما يحفظ للعلي تاريخه الكتابي والإبداعي الذي قد يصل - ولا أبالغ- إلى ثلاثين مجلدًا ضخمًا، ولكشفنا ما اختبأ في تلك الفترة من متغيرات وصراعات وتحولات مهمَّة في تاريخ الأدب الحديث في السعودية، تلك الفترة التي كان العلي واحدًا من شهودها، وليس أي واحد فهو قارئ نهم، صاحب اطلاع واسع على التراث وعلى جيله وما بعد جيله، يدل على ذلك اقتباساته واستشهاداته ممَّا يقرأ إلى جانب فكره الثاقب في تحليل الآراء ومقارنتها ونقدها، وبالتالي فإنَّ حكمه على التجارب الشعرية والأدبية في عصره من خلال مقالة أو محاضرة يختصر علينا الكثير من الدراسات المطوَّلة؛ ذلك لأنه يمتلك ذائقة تعي معنى حركة الشعر، ومعنى أن يكون الشاعر بصير ًا بحركة القصيدة في عصره.
** **
- حسن الربيح