إذا لم يسعفك الحظ بلقاء الأستاذ محمد العلي فإنك ستصادف بعض رائحته في عدد كبير من الكتاب والشعراء ولهذا سيبدو الأمر أشد صعوبة أن تكتب عن تجربة ملهمة وعابرة للأجيال ولافتة وجديرة بالتأمل كهذه وتنجو من تكرار ما كتبه آخرون يشاطرونك الدهشة والتأمل والإعجاب.
في لقاء صحفي قديم وجه أحد الصحفيين إلى الأستاذ محمد العلي سؤالا عن العوامل التي شجعته على مواصلة إبداعه كشاعر وكاتب، فأجاب بالقول: أستطيع أن أتحدث عن المثبطات التي واجهتها في طريق الإبداع وليس العكس.
هذه الإجابة الصادمة للصحفي وللقارئ معا سوف تكشف - نسبيا - عن سيكولوجية المبدع محمد العلي الذي يشير ضمنيا إلى نقطة التحول الجذري وما تلاها من تحديات تصدى لها شاب في مقتبل الشعر بما تنطوي عليه روحه الوثابة من طموح، فقد شرد من طاحونة الأنساق الجاهزة وخرج على نظام القطيع وانشق عن ضمير (نا) المتكلمين، بحثا عن صوته الخاص وشق طريقه بلا دليل ولا خرائط ولا بوصلة موجهة. لا شك أنه يدرك حجم تلك المجازفة وما يترتب عليها من تداعيات بيد إن الذات القلقة في العلي لم تكن تواقة للمضي على طريق مزدحمة بالعابرين ولذا فقد مزق العمامة التي تقيده إلى التوابيت وجداريات البكاء وصنع منها أجنحة وهاربا من الإجابات المعلبة وارتمى فوق جمر الأسئلة الحارقة، دخل إلى النجف متسلحا بالحيرة لا منساقا ولا خاشعا للعويل وخرج على الصف وليس في حوزته سوى الحيرة التي وجد معادلها في فضاء الشعر والأدب ليعود على هيئة بركان لايني يمور ويقذف الأسئلة ويصهر المسلمات ويلاحق الراهن غير عابئ بالواقفين على شرفة أخرى ينتظرونه أن يجيء.
الحداثة - يقول محمد العلي بكلمات موجزة - هي ألا يسبقك التاريخ!
ومن يتأمل في العدد الهائل من مقالاته المكتوبة على مدى بضعة عقود يعرف أن محمد العلي يذهب إلى المستقبل كالطائر لا خفيفا كالريشة الهائمة.
اقرأوا محمد العلي وهو يكتب: «أحبُّ كرة القدم؛ لأنها لا تحمل أحكامًا مسبقة، فالأحكام المسبقة هي التي أعاقت وتعيق البشر، أو معظمهم عن رؤية الواقع، وعن قراءة التاريخ قراءة ناقدة وموضوعية».
إنه يعلل شغفه بهذه اللعبة الأثيرة كقارئ من مقعد خارج المدرجات التي تعج بالمتفرجين الذين لا يرون فيها أكثر مما هي إياه. قارئ يقدم لك شمعة لترى أبعد مما ترى.
.. كثيرا ما سئل محمد العلي عن سبب عزوفه عن طباعة أعماله الشعرية خصوصا، وكثيرا ما يختصر الإجابة عن السؤال بسؤال: لا أدري!
لا يستطيع أحد أن يجيب نيابة عنه لكنني أسمح لي أن أخمن الإجابة من خلال مقاربة شخصيته منذ بدايات التحول. ترى ألا تكون رغبته عن الانضواء تحت محاريب الوعظ التي يكملها حلقات الأتباع والمريدين هي الجمرة التي بقيت تومض في داخل هذا الشاعر المفرد الذي يرفض أن يكون مخطوطة يتداولها القراء ويؤثر أن يمر عابرا كالبرق العقربان؟!
لعل أهم سمة من سمات مقالات الأستاذ محمد العلي أنه ظل على مدى أربعين عاما كاتبا موقفيا ملتزما، إنك لن تجد في كل آثاره أن انزلق إلى مجاملة أو تملق أو هادن على حساب مبادئه وهي خاصية قلما نجا منها كثير من الكتاب والشعراء.
** **
- عبدالرحمن الدرعان