لو جاز لي أن أمرحل الأجيال في تاريخنا الأدبي قبل جيل الثمانينات ( الصيخان، الحربيين، محمد عبيد ومحمد جبر، ومحمد الثبيتي ) ومن جايلهم فإني أتميز أجيالاً ثلاثة، جيل ما بين الحربين ( العواد بخواطره المصرحة ومنتجعه الفسيح، وحمزة شحاته بشجونه التي لا تنتهى وقصيدته / ماذا تقول شجرة لأختها ) وجيل ما بعد اكتشاف النفط الذي منه شاعرنا وأديبنا الكبير محمد العلي ومنه : سعد البواردي، وعبد الرحمن المنصور، وناصر بوحيمد، كمؤسس أول لقصيدة النثر (ديوان قلق) وغازي القصيبي وعبد الله بن إدريس، خاصة من خلال كتابه الرائد ( شعراء نجد المعاصرين ) الذي يشكل مع ( التيارات الأدبية لعبد الله عبد الجبار ) وعبد الرحمن العبيد (الأدب في الخليج العربي) في نظري بواكير المصادر لدراسة أدبنا الحديث. والجيل الثالث جيل ما بعده ... هزيمة ( 1967م) والذي منه علي الدميني، وأحمد الصالح (المسافر ) وسعد الحميدين، فوزية أبوخالد كمؤسسة ثان لقصيدة النثر (ديوان إلى متى يختطفونك ليلة العرس الذي صدر عن دار العودة ببيروت سنة 1973م ) ما يميز محمد العلي الأحسائي مواليد بلدة (العمران -1932م ) هو أنه عابر الأجيال؛ فمع أنه نشأ شاعراً حوزوياً عمودياً متين اللغة منحازاً للجواهري ومجايلا لمصطفى جمال الدين في العراق ( سلا، أسلا سلمى وخالف موعدا / صب أتاح له الظباء يدالردى) وهو ابن الثامنة عشرة، إلا أنه بامتلاكه لحساسية الإبداع والحس الاجتماعي سرعان ما وجد نفسه في الخضم الذي أسس له شعراء الحداثة الكبار : السياب، أحمد عبد المعطي حجازي، خليل حاوي، صلاح عبد الصبور، أدونيس ثم يكتب سنة 1965م قصيدة: في الغابة ( وسال الليل في قدمي أشواقا إلى الغابة /حريقا كدت أنسى خطوه المسعور /أنياب /... إلى درب أضعت بزحمة الأيام أبوابه ) لقد كتبت عن العلي ثلاث حلقات ضمن (مشروع) أجهضته الصحوة، ولم يكتمل هو ( جدل الفكر المعاصر في المملكة العربية السعودية نشر في جريدة الرياض بين أغسطس 1987 - وأبريل 1988م وأظن أنه لا يزال يوجد من يتذكره، وقد درست فيه إبداع العلي حتى ذلك الحين، وأظنها أول دراسة كتبت عنه بمساحة ماكان سقفا للكتابة وقتئذ، ولا داعي لتكرار ما جاء فيها. وإن في ما ستغطيه الشهادات في هذا الملف عن إبداع ونتاج العلي شعراً ونثراً الغزير، مليكنا بانوراما المشهد، عن رائد بحق من رواد الحداثة في بلادنا. لا يفوتني أن أشير إلى أننا تزاملنا كأعضاء في مجلسدارة النادي الأدبي بالرياض لبضع سنوات منذ منتصف عام 1978 : أبو عبدالرحمن بن عقيل، عبد الله الشهيل، وعبد الله بن إدريس، ويحيى ساعاتي، ومحمد العلي، وعلي الدميني، وعبدالله السليمان، ومحمد الشويعر، وأنا كعضو وسكرتير للنادي.
كان العلي حينها مشرفاً على جمعية الثقافة والفنون في الدمام والأحساء، وكان النادي يعيش وضعاً مزدوجاً بتبعيته فنياً وأدبياً لجمعية الثقافة والفنون، ومالياً لإدارة الأندية الأدبية برعاية الشباب بخلاف بقية الأندية تشكل أول ما تشكل النادي قبل ذلك بسنوات برئاسة عبد الله بن خميس ثم توقف وبقي مخصصه المالي رصيداً في رعاية الشباب، وكانت عين محمد الشدي على هذا المخصص، لدعم أنشطة الجمعية بوصفه رئيساً لها بعد الأمير بدر بن عبدالمحسن، وقد سعى لذلك إنما من خلال إعادة تشكيل النادي الأدبي بالرياض تحت مظلة الجمعية ليغطي مخصصه الجوانب الأدبية، فيما يبقى مخصص الجمعية لبقية أنشطتها. وقد تشكل المجلس بمحضر من راشد الحمدان مدير الأندية الأدبية برعاية الشباب ومحمد الشدي رئيس الجمعية رفع إلى الرئيس العام لرعاية الشباب الأمير فيصل بن فهد وفيه اقتراح بالأسماء من العاملين والمتعاونين مع الجمعية من ذوي الصلة بالشأن الثقافي وصدور القرار بالتشكيلة هذه. وكانت نية الشدي ومن معه إذا نجحت التجربة أن يتم تأسيس نادي أدبي في المنطقة الشرقية تحت ظل الجمعية وتكون تلك خطوة لتعميم المظلة على باقي الأندية فترتبط بالجمعية بدلاً من رعاية الشباب، لما يمكن أن يضيفه ذلك من المرونة على أدائها، ولكن ليست كل رياح تجري بما تشتهي السفن. وهذا ما أعرفه جيداً. العلي غزير الإنتاج لكنه غير مبالغ بجمع ما يكتب بعد أن يدفع به للجريدة أو المجلة وما يلقيه من على المنبر. وأظنه لهذا السبب يعتبر أن دوره انتهى، لو لا أن قيض الله بعض أقاربه (أحمد العلي) الذي استحضر نتاجه الفكري والأدبي واستظعره من مظانه، وبعض أصدقائه من مثل علي الدميني الذي تابع وأشرف على إصدار بعض كتبه لبقيت تلك الأعمال طي النسيان أن شباب إبداعنا الجدد لا يعتبرون الشاعر والكاتب الكبير الأديب المميز محمد العلي إلا منهم وواحداً من كل الأجيال التي سبقته، وللتدليل على هذا فإني أحيل القارئ الكريم إلى آخر سلاسل مقالاته في مجلتنا مجلة اليمامة الغراء، وشكراً لجريدة «الجزيرة» التي ذات يوم قبل أربعين سنة كنت واحداً من أسرة تحريرها على هذه الفرصة.
** **
- صالح عبد الرحمن الصالح