في مصر كان أنيس منصور وجيله أي تلامذة عباس العقاد وطه حسين دائمي الشكوى من أن العقاد وطه حسين رحلا ولم يقرآ حرفاً واحداً مما كتبه تلامذتهم، رغم الوفاء المنقطع النظير الذي وجده عملاقا الأدب والفكر من الكثير منهم، إلى درجة أن البعض نذر نفسه لأن يكون أقرب لصدى لصوت طه حسين والعقاد، ومع هذا لم يلتفتا لأحد منهم، وكأن الأدب والفكر انتهيا في مدرسة العقاد وطه حسين، بل إلى آخر أيامه كان أنيس منصور يتحدث عن ذلك بنوع من الحسرة أن العقاد الذي كتب فيه أجمل كتبه «في صالون العقاد كانت لنا أيام» لم يكن يقرأ سطراً واحداً من مقالاته لا وهو ولا طه حسين.
في حالة الأستاذ محمد العلي، ربما كان يمثّل الاستثناء لجيل الرواد من المثقفين العرب، أجزم بأن العلي قرأ لأجيال جاءوا بعده من المثقفين السعوديين والعرب في عمر أحفاده، بصورة قل نظيرها بين المثقفين العرب، وهذا الكلام أقوله من واقع تجربة سواء ما عرفته منه شخصيا وإن كان بطريقة غير مباشرة أو من خلال مقالاته الذي كثيرا ما استشهد فيها بكاتب أو أديب مبتدأ، بل تجده أحيانا يكتب مقالا كاملا عن أديب شاب لا يكاد يعرفه أحد.
أتذكر أني قبل قرابة 15 سنة تقريباً ذهبت إليه لأجري حواراً معه لصحفية الجزيرة - المجلة الثقافية- كان حينها ما نشرته من مقالات لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة ما بين صحيفتي الجزيرة واليوم، وجدته يفاجئني قائلاً:
في كاتب اسمه أحمد الهلال هل هو أنت أم تشابه أسماء أم بينكما قرابة؟
أبديت استغرابي من أني لم أسمع بهذا الاسم في الصحافة غير شخصي المتواضع ثم بدأ يذكرني ببعض عناوين مقالات ذلك الكاتب الذي يطابق اسمه اسمي والمنشورة في صحيفتي الجزيرة واليوم علي أن أتعرف على الكاتب الذي قصده الأستاذ، ابتسمت حينها بخجل وقلت له:
هذا أنا وهذه عناوين لمقالات نشرتها في الجزيرة واليوم.
و بدأ بعد ذلك يناقشني بمقالين نشرت قبل أشهر من لقائي به، الأول في صحفية الجزيرة بعنوان « أدب المستقبل « والمقال الثاني في صحيفة اليوم بعنوان «بين الليبرالية والحداثة»، ويستحضر فكرتيهما بصورة أذهلتني، وخف تعجبي وإن كان لم يفارقني حينما بدأ يذكر أسماء لكتاب غير معروفين، بل بعضهم كنت أسمع به للمرة الأولى، وأنا الذي كنت حينها ادعي بأني متابع لصحف وما يكتب فيها بحكم عملي الصحفي، وزاد استغرابي حينما عرفت أن جزء مما ذكرهم أسماء كتاب شباب بعمر أحفاده.
و السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الداعي، وعن ماذا يبحث العلي حينما يقرأ كل مقال شارد أو وارد كتب في الصحافة سواء كان لكاتب معروف أم مغمور؟
في رأيي المتواضع لأن العلي مثقف حداثي ملتزم، وهذا جزء من طبيعة التزامه، أو جزء من إيمانه بفكرة الحداثة، الذي عبر عنها - الحداثة أن لا يسبقك التاريخ -، وبالتالي لا يريد أن ينفصل عن واقعه الثقافي، ويعيش خارج هذا الواقع مكتفيا بذاته أو ما يطلق عليه كرائد أو أب للحداثة، الذي كان ينفيها مرارا وتكرارا، ويرى بها فخا لا تناسب كل من يرفع شعار الحداثة، بل قال لي شخصيا:
الحداثة ليس لها أب وليس لها مصدر واحد، مصدرها الفن والعلم والاقتصاد وغيرها من العلوم، أما أن يأتي شخص من آخر الدنيا ويقول أنا من أوجدت الحداثة فهذا ادعاء آثم. آثم.
هذه الريادة الذي لا ننفيها قطعا عن الأستاذ العلي، كأول من قال بفكرة الحداثة بمعناها الصريح في السعودية، وعبر عنها بشعره ومقالاته، لا يتوقف عندها العلي كثيرا، بل هو يرفض أن يتحول المثقف مهما تقدم بالسن ونضجت تجربته وتراكمت، إلى أشبه بشيخ طريقة، الذي يحتاجه الجميع وهو قل ما يحتاج إليهم، كما هي طبيعة بعض المثقفين التقليديين، الذي يرى بأجيال المثقفين الذين جاؤوا بعده بأنهم عالة عليه.
أختم بهذه الإضاءة التي هي بمثابة الدرس لكل مثقف تضخمت ذاته.. حينما سأل الصحفي طامي السميري الأستاذ محمد العلي عن سر تصالحه مع كل الأجيال الإبداعية، قال: أنا أؤمن أن الجميع يستطيع أن يتجاوز.
** **
- أحمد الهلال