لست أديباً ولا كاتباً ولا يحق لي بحال أن أتطفل بالكتابة عن أحد من عمالقة الفكر والأدب العربي بمقام الأستاذ محمد العلي. إنما هو نزول عند رغبة أستاذنا وأخينا الكبير محمد القشعمي «أبويعرب» وامتثالاً لأوامره. وأنا لم يسبق لي أن نشرت مقالة في صحيفة من الصحف، فألتمس العذر على التقصير.
عرفت محمد العلي عن قرب في منتصف الثمانينيات، بعدما عرفته عن بعد منذ كنا نقرأ عموده القصير المكثف في الصفحة الأخيرة من صحيفة اليوم. وزرته في منزله بالجبيل الصناعية عدة مرات عندما كنت مديراً لبنك الرياض، فرع الجبيل الصناعية ثم في منزله بالدمام بعد ذلك. وهناك أمامه وفي مجلسه تدرك أنك أمام شخص مهيب يجلله العلم في ثوب رجل بسيط متواضع. هو لا يفصح لك عن حجم علمه الواسع الغفير لكنه يجسد تلك المعرفة العميقة في سلوكه وتصرفاته.
قرأت عليه ذات مرة محاولة شعرية وهو صامت ينصت حتى نهايتها. وعندما فرغت التفت لي بلطف وقال هل انتهيت؟. قلت نعم. قال ارمها في الزبالة أو في أقرب موقد. من يقول «قبلة في الجبين» في قصيدة للغزل؟ شعرت بالصدمة لكنه لم ينفعل أو يتململ في مجلسه.
وقرأت عليه بعد زمن بعيد بعض الشيء، محاولة شعرية أخرى أسميتها «شمعة النفط». بعد أن انتهيت اعتدل في جلسته وقال هل تعرف الفرزدق؟ كان كلما قرأ عليه أحد شعراً وأعجبه أحسن الإعجاب يقول «هذا ليس أنت!! هذا أنا» أو بهذا المعنى، تعبيراً عن منتهى الإعجاب. فأنت الآن لست أنت، أنت أنا. هنا انتابتني نشوة وذهبت إلى ابنه علي الجالس في المطبخ يعد الأكل كعادته منفوخ الصدر لأقول له هل تعرف من أنا الآن؟ أنا الآن إما أني الفرزدق أو محمد العلي.
زارني ذات مرة في البنك ليفتح حساباً مصرفياً. استكملت له الأوراق وكتبت عنه البيانات ثم قدمتها له للتوقيع. سألني أين أوقع؟، فقلت له هنا. نظر في الورقة وقال لا!! أنا سأوقع «هنا» وكان ذلك في الزاوية الأخرى من الورقة. لم يشأ أن يوقع تحت كلمة «عميل» ولم يشأ أن يكون «عميلاً» لأحد في حياته.
سألني ذات يوم: كيف أنت؟ وهو يعلم بحالي. فأجبته باقتضاب: (أعلل النفس!)، وقصدي قول الشاعر. وقد عرف قصدي لا محالة. فرد علي مستنكراً: لا، ليس هكذا!! أنت ينراد لك المعري ((هي العنقاء تكبر أن تصادا فعاند!! من أردت له عنادا)). شدّ بقوة على الكلمة الأولى «فعاند» وفرك أصبعين – السبابة والإبهام – كمن يريد أن يسحن عظماً بجلمود، ومدد الكلمة الأخيرة، بلهجته القشيبة، رافعاً رأسه كمن يصارع ضرغاما بقدرة المنتصر: عناداااااااااااا !! سكت وأنا أشك في قدرتي على العناد. غير أن الدرس علق بذهني إلى اليوم.
هذه لفتة قصيرة عن علاقتي الطويلة بمحمد العلي. وجدت أن أشارك بوميض مما يحضرني الآن عن شخصية عملاقة يصعب تأطيرها.
** **
- عبداللطيف العبداللطيف