صراحة في البداية عندما طلب مني الكتابة لم أستجب مباشرة وذلك لأني أولاً: لم يتبادر إلى ذهني يوماً الكتابة عن الوالد، وثانياً: لأن صورة الوالد في ذهني من الصعوبة بمكان اختزالها في سطور أو خاطرة، وثالثاً: كتابتي ستكون متواضعة جداً مقارنة بكتابات الوالد وقدراته في الصياغة اللغوية وذلك لن يوفيه حقه، وأخيراً لأني كشخص لا أحب كيل المديح والكلام المنمق.
قال لي أحدهم ذات يوم مؤخراً: (أنتم أسرة سعودية قادمة من المستقبل)، تأثرت كثيراً بهذا التعبير وزادتني هذه العبارة يقيناً أننا لم نكن لنصبح كذلك لولا والدنا الحبيب، له الفضل الأول والأخير في رسم ملامح شخصياتنا، دائماً أنظر للجانب المبرق فيه كإنسان، جانب متوهج باستمرار عصي على الزمن، جانب بقي متألقاً متجدداً لم تؤثر فيه المستجدات ولا الأحداث، كنا نحن دوماً أولوية في حياته، حيث مرت فترة أذكرها جلية، وكأنها تحدث اليوم -لما لها من وقع على نفسيتي-، كان يعمل في ثلاث وظائف في وقت واحد (بكل ما يعنيه ذلك) من معاناة وشقاء وذلك كي يوفر لنا حياة لائقة كريمة.
الوالد دقيق الملاحظة، يفهم كل واحد منا بلمحة عين رغم عددنا، لا يمكن أن تخفي عنه ما تشعر به أو ما يدور في خلدك أو تمر به سلباً أو إيجاباً وهو يعرف بدقة انكفاءاتك أو مسراتك.
الوالد على الأقل بالنسبة لنا كنساء لم يرغمنا على أي شيء، بدءًا بالدراسة والتخصص وانتهاءًا باختيارنا لشركائنا، لم يفرض علينا تأثيراً من أي نوع، كان ديمقراطياً في التعاطي ولا يزال بشكل يعجز عنه حتى الشباب حالياً، وتلك علامة فارقة لا يمكن التغاضي عن ذكرها حيث اختلف الزمن والبيئة المحيطة وكان كل ما حولنا متحفظاً بل لنقل ظلامياً. كان لا يقبل بالمسلمات، دوماً يطرح الأسئلة الفلسفية، يناقشها معنا، ويبدي رأيه بكل وضوح، يطرح كتباً للقراءة ويتحاور معنا، ويوجز ما جاء في الكتاب، وبذلك وضع بذوراً أينعت.
لا يتردد في مراجعة النفس والاعتراف بالأخطاء وتلك أمور من الصعوبة بمكان.
حببنا بالشعر، حيث كانت لديه ترنيمة خاصة من ابتكاره وبصوته الجميل يردد على مسامعنا بعض المقاطع الشعرية المؤثرة ترن في أعمق أعماقنا (أمل دنقل، السياب) ومقاطع من شعره.
بالنسبة لي: كان يساعدني دوماً في بعض الواجبات المنزلية المكلفة بها من والدتي.
أخيراً أود أن أقول:
بالتأكيد نحن لم نكن له كما كان ولا يزال لنا.
كأن له تأثيره القوي حتى على الوالدة التي بقيت متأرجحة نوعاً ما حتى حسمت جذورها التربوية الدينية القوية خياراتها
لكنها بالرغم من ذلك لم أكن لأقول إنها ملتزمة أو متزمتة كمحيطها الذي تربت فيه.
** **
- شذى العلي