بداية عندما أتحدث عن الوالد وقبل الحديث عنه لا بد أن تأخذني الذاكرة إلى من كانوا حوله من أدباء مثل الشاعر الراحل شاكر الشيخ -رحمه الله - كان أحد الرواد الإعلاميين في المنطقة الشرقية. تتذكره جمعية الثقافة والفنون بالأحساء والدمام وكذلك الساحتان الأدبية والفكرية.
عندما رأس أبو بدر تحرير مجلة الشرق أثناء مسيرته الإعلامية أخذ التزاماً أولي من محمد العلي ليصدر كتاب مجلة الشرق بعمود تحت عنوان «فيها قولان»..!
ابتدأ العلي سلسلة مقالاته بمقال أوضح فيه المقصود بالقولان أنه يشير إلى الأهداف غير المعلنة أو ما يشار له أحياناً «بقراءة ما بين السطور» وأوضح على سبيل المزاح أنه لا يقصد بالقولان ما يسجل في مرمى حارس ملاعب كرة القدم، إنما أراد فتح باب الخيال والأسئلة.
القناعات والتفرد بالذات قد تكون أحد أسرار الكتابة بالشكل العام، لكن أن تضع أمامك أهدافاً إنسانية وأخلاقية بمستوى الوطن ذلك حمل ثقيل. فالمسيرة الوطنية والاجتماعية تحتاج إلى أسس مشتركة عندما تتحد النوايا والقناعات وترسم طريقًا واحدًا لحاملي معاول البناء.
في رعيل المثقفين الأوائل من شعراء ومفكرين نستطيع أن نطلق على «محمد العلي» أنه من مشيدي صرح الثقافة في بلادنا، أو يمكن تجاوزًا أن نطلق عليه في مادة الكيمياء «عامل تحفيز التفاعل». أما في مادة الفلسفة التي يلجأ لمعارجها في كل حين لترقيم مساره، نستطيع أن نقول عنه مجازًا «مشائي» منذ البدء. وأخيرًا في عالم الكمبيوتير الذي اقتحمه مجبرًا وأوغل في جوفه «منجله المتلثم» نستطيع أن نجزم أننا لن نظلم علماء التكنلوجيا إذا ما أطلقنا عليه تسمية «المبرمج».
سأنضم إلى فريق من يؤمنون أن الحياة أكثر ازدهارًا ونضارة في الجانب الآخر. من يصرون على تسلق القمم وقهر الصعاب للوصول إلى غاياتهم حتى وإن كانت في المرتفعات الخطرة.
لا أعرف من وراء مقولة «المثقف من يصل إلى القارئ أولا». المثقف يؤمن أن الكتابة تعني الصدق والثقة والهدف والمبدأ والعطاء وبناء الوعي والوقوف سدًا منيعًا ضد الخوف الذي يساومنا على بناء المستقبل. ربما الساحة التي يلعب بها كبار المثقفين هي نفسها التي يلعب فيها صغارهم مع فارق التوقيت الذي يبلغ أشده في أيديولوجية البناء وقدرة الفرد على ترويض الذات للإصرار على وصول الهدف. يقول لوسيان غولدمان لا بد من الثقافة لمعرفة الوجود.
يقال إن سر اكتشاف إسحاق نيوتن للجاذبية أنه كان منفتح على الأسئلة، كما هو الحال عند محمد العلي الذي يجيد مراجعة المسلّمات التي يراها ويعيشها الآخرين دون التوقف أو التساؤل نحوها! المثقف إذا من يجيد الأسئلة حتى وإن كانت الأجوبة تبدو واضحة للبعض. المثقف من يفتح الباب على مصراعيه دون تردد أو خوف من رهبة المفاجآت.
الوالد يقول المثقف هو الذي يملك بنوراما المعرفة، وهو الذي يمتلك مجهر الإضاءة لينير العتمة. طريدته اصطياد المادة الفكرية والشعرية ببراعة. قال أحدهم لملك إيرلندا يوماً - لن يذكرك التاريخ ما لم تخلد انتصاراتك ببيت شعر.
يقول محمد العلي:
صوتك أجنحة للذين يفيضون من كل فج
من كل ما سوف أذكره حينما أتغزل
آه .. متى أتغزل؟
وإذا كيف لنا أن نعيش دون
«انتظار لفراق
أو شهقة لمعاد»..؟!?
على الكاتب التطريز وعلى القارئ التفكيك؟ على الكاتب التحفيز وعلى القارئ الاستمتاع بنشوة اكتشاف الإيحاء في النص؟ رائعة هي أديولوجية التغيّر في المشهد الثقافي التي ميزت مسار محمد العلي منذ منتصف القرن الماضي والذي سار نحوه يدًا بيد مع العديد من الرواد في وطننا الغالي. وكان له دورًا في تحديد مفهوم الحداثة.
بقى أن نشير إلى أن الوالد «لاعب وسط ماهر» فمن صفاته حبه للتهديف وتحقيق «الأقوال»! لكن ما هو أجمل أنه عندما لا يريد أن يلعب في الساحة الأمامية يخلد إلى السكون ثم يهرب إلى الفلسفة أو إلى التصوف أو حتى إلى التغرب ليقابل أصدقاء له مثل ابن خلدون والجاحظ وأبي تمام والبحتري وباشلار وطاغور وأبو العلاء وآخرين كثر! ما يسميه البعض خلطة المثقف السحرية التي تعيد له النشاط والحيوية.
وافر الشكر للأصدقاء والأحباء الذين بذلوا جهدًا من أجل هذا الوطن ومن أجل ملف الوالد محمد العلي لإخراج هذا الملحق. بعد إلحاح شديد منهم وجدت أن لا مفر من الكتابة في هذا التكريم. أود أن أوكد أني لم أكن أنوي وضع سطرًا واحدًا في هذا المحفل حباً في ترك المساحة مفتوحة للآخرين من كتاب وقراء في إبداء آرائهم سلباً أو إيجاباً نحو الوالد محمد العلي الذي أعلم أنه يعشق النقد ولا يحب المديح.
الشكر موصول أيضاً للكاتب والمفكر الأخ العزيز أبو يعرب القشعمي، والأخ العزيز الشاب محمد الهلال لمجهودهما الكبير ولما قاما به من اتصالات مضنية ومتابعات لإخراج هذا الملف.. تحياتي القلبية وأمنياتي بعمر مديد لوالدي ووالد وسطنا الأدبي باتساع الوطن.
** **
- رياض العلي