د. إبراهيم بن محمد الشتوي
(4)
لكن يبقى السؤال عن موقف الرافضين لمشهد الطرد، أهو موقف أخلاقي؛ بمعنى أنه يعبر عن رفض لما يشتمل عليه هذا المشهد من قسوة، وتعد على هذا الحيوان الضعيف مع انتفاء الحاجة إلى ذلك، ومع توافر وسائل اللهو والمتعة المتنوعة التي تجعل الاستمتاع بالنظر إلى كلب سلوقي وهو يشتد خلف أرنب أو غزال نوعاً من السخف والوحشية ينبغي الوقوف ضدها، أو يعبر عن شعور دفين بالاضطهاد يجعله يتماهى مع الأرنب (الضحية) على غرار تماهي صاحب الكلب مع كلبه، فينحاز إلى هذا المضطهد بوصفه معادلاً موضوعياً له يدافع عنه فكأنه يدافع عن نفسه أو يبين عن قضيته من خلال الموضوع أمامه.
بيد أن السؤال عن سبب اختيار النظارة أو المشهد هذا الموقف مما يشاهده يظل مطروحاً؛ فلماذا يختار أن ينحاز إلى الضحية ويكون في موقعهاً عوضاً عن أن يكون مع الصائد، فيحاول أن يقوم هو بدور الصائد، فينفس عما يجده من غضب وحقد في هذا المخلوق المسكين (الأرنب)، أو كما يقولون في العامية (يفش خلقه فيه)، ويعوض عما وجده من مظاهر الضعف والمسكنة، ويحل عقده فيه؟
هذا السؤال يتصل بقدرة الإنسان على مواجهة حقيقته، ففي الوقت الذي يذهب فيها من يختار الانحياز إلى الضحية الاعتراف بضعفه وعجزه، ومواجهة حقيقة أنه لا يختلف عن هذا الحيوان المطارد، وأنه يواجه هذا الموقف في كثير من مراحل حياته، يختار الآخر الميل إلى إنكار ذلك، وإلى الرغبة في الكشف عن الجانب الوحشي فيه الذي يجعله لا يختلف عن أولئك السباع الذين يلاحقون الطرائد وإنما يعود السبب إلى الظروف أو الحظ أو غيرها من الأسباب التي جعلته يصبح مع هؤلاء دون أولئك.
ولا شك أنه موقف قائم في البداية على الاختيار، ولكن الثقافة وأقصد هنا ثقافة المجتمع هي التي تغذي أحد الاختيارين دون الآخر، فتجعل أحدهما يسود في مجتمع بينما يسود الآخر في مجتمع آخر حيث يميل الناس إلى التعامل مع أنفسهم صراحة: مع ضعفهم وعجزهم، ووقوعهم ضحايا العنف والعسف والإكراه، في حين يميل آخرون إلى محاولة التستر خلف غطاء من القسوة والعنف والفتوة وادعاء القوة والظفر والرغبة في إظهار ذلك في كل فرصة تسنح لهم مع معرفتهم بعدم صحة ذلك.
وهذا الموقف (أعني موقف الفئة الأولى) خلاف مفهوم التطهير كما هو عند أرسطو، الذي يأتي فيه المشاهد وهو يشاهد ذنوبه أمامه على المسرح من خلال الصراع الدرامي بين الضحية والجلاد، تتحدث فيه الضحية عن نفسها وتتمكن من إفحام حجج الجلاد ودحضها أياً ما تكون هذه الحجج، فتسقط دفاعاته، وعندها لا يملك المشاهد إلا أن يعترف بذنوبه إن كان متماهياً مع الجلاد (الصائد) صاحب الكلب، وأن يواجه حقيقة ما يفعل، وأنه فعل وحشي غير مقبول ولا مبرر، فينقلب موقفه من الانحياز إلى الصائد إلى التعاطف مع الضحية، أو أن يعبر عن موقفه بصوت عال، ويتحقق من سلامته إن كان قد انحاز إلى الفريسة (الضحية).
وعندما يحس المشاهد بتعاطفه الكامل مع الضحية وإدراكه لشعوره، فإنه يتطهر من ذنوبه، في الوقت الذي يمثل هذا الإحساس قمة نجاح العمل الدرامي إذ استطاع أن يوصل رسالته إلى المتلقي، وأن يجعله يستجيب لرؤية النص خاصة في بعدها الكلاسيكي الذي يقوم على الصراع بين الخير والشر.
وإذا كانت غاية البناء الدرامي هو التشويق، وجذب انتباه النظارة من خلال بناء حدث محكم؛ إما أن يكون قائماً على فعل الخطأ الذي يؤدي إلى الصراع النفسي والاجتماعي أو بناء على التحول والتعرف كما هو لدى أرسطو، فإن «الملاحقة» من العناصر التي تثير تشويق المتلقي، وتحفزه على المتابعة بغض النظر عن السبب الدافع لهذه الملاحقة، أكان فعل خطأ أم تحولاً، وذلك أن الفعل نفسه (الملاحقة) بما يقوم عليه من عناصر مبتكرة وغرائبية يمثل حدثاً قائماً بذاته، يتقابل فيها الطرفان بصراع يقوم على التنافس بالقدرات أيهما يستطيع أن يبطل قدرة صاحبه سواء اللاحق الذي يرغب في أن يوقف الملحوق وقدرته على الفرار حتى يتمكن من الإمساك به، أو الملحوق الذي يسعى أن يتفوق على اللاحق بأن يبتكر من الوسائل ما يجعله بمنأى عنه، وقد يسعى في هذا الجهد إلى أن يبطل الأدوات والوسائل التي يستعملها اللاحق في ملاحقته، وبهذا التنافس وتقابل الأفعال يتداخل اللاحق بالملحوق، فلا يظهر فيها أي واحد منهم هو الفاعل في هذه العملية، وهو ما يوصل التشويق فيها إلى ذروته، ويجعلها أصيلة في بناء الفعل الدرامي.
والذي يثبت أن «الملاحقة» قائمة بذاتها مستقلة عن السبب الدافع لها في بناء الحدث، أننا في بعض الأفلام نجد إحدى الشخصيات أحياناً تشعر بأنها ملاحقة دون أن تستبين الشخص الملاحق، ودون أن تدرك السبب وراء ذلك، وإذا ما فر منه فإنه يفر من المجهول، وعندها تصبح عملية الفرار والملاحقة عنصر تشويق، بناء على ما قيل من قبل، بالرغم من عدم ظهور الدافع لها للمشاهدين في بناء الحدث الدرامي.