عبد العزيز الصقعبي
إلى:...
لم أعرف أنك لا تبصر إلا بعد مدة ليست قصيرة، عندما رأيت شاباً يمسك بيدك ويجلسك على كرسي صغير أمام بيتك، أو بيت أحد أبنائك، لا أعرف تماماً، عموماً أنت تجلس كل يوم وترفع رأسك ونظرك يتجه للبعيد، كنت أمر من أمامك، وأرفع يدي بهدوء لأحييك، مع التلفظ بسلام بالكاد أنا أسمعه، خجلاً ومهابة منك، جسدك النحيل، وثوبك الداكن دائماً، وشماغك وذلك العقال الصغير الذي يشبه التاج على رأسك، أنت بعمر جدي وأنا فتى قدره أن يكون طريقه قبل مغرب كل يوم متوجهاً إلى وسط السوق يمر بك، أنت تجلس دائماً، تلتزم الصمت، أنت لا ترى، هذا ما عرفته، حينها بدأت اقترب منك، وأسلم وأنا أستغرب لماذا ترفع رأسك دائماً كأنك تطالع شيئاً في السماء، على الرغم أن على بعد عدة أمتار أمامك مجموعة من البيوت القديمة، بعضها آيل للسقوط، أغلب الأيام أراك جالساً قبل الغروب، ربما بعد صلاة العصر يجلسك أبناءك أو أحفادك على ذلك الكرسي، ويتركونك لوحدك، تجلس وربما تشعر أن هنالك حياة في الخارج، وحسناً فعلوا عندما قرروا عدم بقاءك حبيس الفراش في غرفة ضيقة في بناية قديمة، أنت لا ترى وربما لا تسمع، أو ربما سمعك ثقيل، لم أشاهدك مطلقاً تتكلم، ولكن بكل تأكيد تشعر بما حولك، ذات يوم طلبت من والدتي أن تعطيني قنينة صغيرة جداً بها عدة قطرات من دهن الورد الأصلي، أنا لا أعرف بالضبط نوعه، ولكن رائحته القوية والزكية، جعلتني أسأل والدتي عن نوعه، فأخبرتني باسمه ، كنت أنوى أن اقترب منك، وأعطرك بتلك الرائحة الطيبة، أخذت القنينة، وتوجهت إليك، بالمناسبة، بيتنا بعيد عن مكانك، أنت أقرب إلى وسط البلد، في الطريق للسوق القديم، حتماً لم يكن في ذلك الوقت قديماً، ولكن هو الآن قديم، كقدم وجودك، اقتربت منك أريد أن أطيب ذقنك البيضاء وملابسك، ولكن خفت، ربما هنالك من يراقب من أحدى النوافذ المطلة على المكان، اقتربت قلت السلام عليكم، لم ترد، حتماً لم تسمعني، اقتربت أكثر، رأيت مجموعة من النساء يخرجن من البيت الذي تجلس أمام بابه، أخجل كثيراً من التحدث مع النساء، ابتعدت، لا أدري أهن بناتك أم حفيداتك، كن يتحدثن بهدوء ويتضاحكن، لا أدري، هل لمحن صبياً يقترب من أبيهن أو جدهن، ليعطره بذلك الطيب، ربما كن حذرات أن لا تشعر بهن، أجل ثلاث نساء خرجن من بيتك وتوجهن إلى مكان آخر، لا أدري أهو السوق أو بيت آخر، كان من الأولى أن تقترب منك أحداهن لتسألك إن كنت تريد شيئاً، ولكن أنت رافعأسك وعيناك اللتان لا تريان متجهتان إلى أفق أعلى ربما لا يشعر به أحد غيرك، وحيداً، فعلاً وحيداً، لم أرى طلية الأيام التي مررت بها ذلك الشارع الضيق حيث تجلس كل عصر، لم أرى أي رجل أو امرأة يقف أو يجلس أو يتحدث معك ،مرة فقط كان هنالك شاب ممسك بيدك، وأنت تخرج من ذلك البيت الكئيب، ويجلسك على الكرسي، ويغادر، وهو صامت لم يتكلم، أنت لا ترى وربما لا تسمع ولا تتكلم، ولكن حتماً ستشم بالذات الروائح الطيبة، وأنا لا أستطيع أن أقترب منك لأطيبك، وأضع على ذقنك التي تذكرني بذقن جدي الذي رحل منذ سنوات قطرات من العطر، هل أحاول، هل أسكب العطر عليه، وأهرب، هل سيصدق من سيلحق بي عندما أسكب ما في القنينة، أن ما بداخلها عطر، قطرات قليلة جداً، وما المناسبة، حاصرتني الأسئلة، ووجدت أن من الأجدى أن أضع على ملابسي ذلك العطر وأقترب منك، يكفي أن تشعر برائحة طيبة مرت من جانبك، ابتعدت مباشرة، بعد أن غامرت واقتربت من مكانك حتى كدت أن أصدم بك وأنت تجلس لا تشعر بمن حولك، ولا تعرف.
أنه بعد زمن ليس طويلا، وأنت عند الرفيق الأعلى أزالوا البيوت المقابلة للبيت الذي تجلس عند بابه، ربما بيتك أو بيت أبنائك، كان هنالك طريق معبد بالأسفلت، وعلى الجانبين رصيف، الجميل أن في مكانك بنوا حوضاً به شجرة وورود وزهور ذات عبق جميل. منذ أيام مررت بالمكان بسيارتي، ولمحت الورود وتذكرتك.