عند الباب:
أبا عادل، هب لي من النهر قطرةً
أبلَّ بها نبضي العطيش ليعشبا
أروِّ بها حرفًا تيبَّس وهجه
عسى أن يرى ماء الحياة فيخصبا
وهب لي بنانًا من بناناتك التي
تخطُّ بها الشِّعرَ الحريرَ المقصَّبا
وقم، واشعل الفحمَ الرماد لعله
يدبُّ برقراق المياه فأكتبا
وأشعلها، كلَّ القناديل بالهوى
فأطوي بها فيح المفازات والربى
وقامتك الشماء قصدي، ومطمحي
فخذ منه ما ترضى، وإن كان أشيِبا
أخذتني الرهبة من تلابيب ذهني بمجرد أن انفرجت كواه بحثًا عن ومضة يقتنصها مدخلاً للكتابة عنك، فأنت لست ذلك العادي في أدبك شعرًا ونثرًا، فلكل منهما خصائص قائمة وسمات مميزة.
بحثت عن عنوان لمخاض حروفي، فعدت لما بحوزتي مما كتب عنك فهالني أن كل العناوين احتجنت قبلي، احتجنتها قامات سامية شماء. أواه! ما أصنع؟ قررت أن لا أمس بكارتها، اتقاء العثار، فعلى حد علمي المتواضع أنها ما زالت في طهرٍ إلى الآن، لم تطمثهما كاتبة وللم يغشَها كاتب على كثرة من كتب عنك، وحتى جامعة أدبك وما كتب عنك، الأستاذة عزيزة فتح الله، مع أنها ألمت بنقدك، فإنها أجفلت كغيرها عن انتقادك، وهذا ما أقدمت علي عليه في إحدى المقابلات الصحفية منذ سنين، حيث أخذت عليك إهمالك أدبك مشتتاً في هذه الجريدة وتلك المجلة، فلك تجمعه بنفسك، وهذا خطأ فادح وقعت فيه. فلديك كثير، كثير ما زال رهين الشتات.
خذ مثلاً كتاب (الشيخ باقر أبو خمسين - علم وعطاء وأدب)، تأليف الشيخ محمد علي الحرز، هذا الكتاب تضمن قصيدة عنوانها (أأبا الحسين) منها:
خطرت فأرسلها البيان خطابا
وبدت فسجلها اليراع كتابا
توحي إلى الذهن الشرود، فينثني
وتجوب فيه فدافدًا، ويبابا
ورنت إلى جو الأثير بنظرة
لبست به هام السماك إهابا
وسعت إلى الأفق البعيد وقصدها
لتزيل عن دنيا الملاك حجابا
وسمت إلى خدر يعز مناله
والعلم قربه فأصبح بابا
نصبت لها المحراب فيه فأرسلت
نغمات آلهة الجمال عذابا
قرأت به سفر الوجود مرتَّلا
عرفت به صنع الجميل مثابا
فرحت بها دنيا الطيور وراقها
دنيا الأنام ملت عليها الغابا
إلخ. . .
لقد أغفل مؤلف الكتاب؛ الشيخ محمد أمرًا في غاية الأهمية، ألا هو الإشارة إلى أن القصيدة كتبها الشيخ باقر -رحمه الله- في الأحساء، يتشوق فيها إليك إبان إقامتك بعيدًا عنه في النجف، يتضح ذلك جليًّا مما كُتب في حاشية القصيدة في مصدر نشرها لأول مرة في مجلة العرفان اللبنانية( )، ونصه: (ب. الهجري- من الأحساء: المملكة العربية، مهداة إلى الصديق القريب البعيد م. ع)، معلوم أن (ب. الهجري) رمز للشيخ باقر -رحمه الله-، فهل ثمة شك في أن (الصديق القريب - البعيد م. ع) هو محمد العلي؟
معرفتي بك تجاوزت الستين عامًا، فمنذ مطلع السبعينيات من القرن الهجري الماضي، الخمسينيات من القرن الميلادي كانت تصلنا أنباء (أسرة الأدب اليقظ) النجفية بالعراق، وأنت عضو فيها، باعتراف صديقك الحميم السيد مصطفى جمال الدين -رحمه الله-. ويقينًا إن ديوانه بمكان أثير من مكتبك، فهو أثير لديك كما صاحبه.
يقينًا لم تنس ذلك العاصف الأدبي الذي أثرتَه بيقظانيتك متضامنًا مع يقظانيته في سبطه (يقظان). يقظان هذا كانت أمَّه حاملاً به أثناء فرارها مع الآلاف من حرائر العراق وأحراره من البغي الصدامي في غزوته الغاشمة للكويت، فولدته في صحراء رفحاء شمال المملكة، فكتب السيد قصيدته (أنشودة لوليد الصحراء) منها:
نبِّؤوني، يا من بصحراء بانوا
كيف يغفو بليله اليقظان؟
كيف هزَّت عواصف الرمل مهدًا
ضجرت من بكائه الأوطان؟
ضاق فيه حضن الفراتين ذرعًا
فتلقته هذه الكثبان
فانبريت تصرخ:
أجهشت؛ إذ تكلم البركانُ
في فؤادي الذكرى ولج البيان
وأفاقت كل الجذور التي اهتزَّت
على شعره بها الأغصان
وتخلى النسيان عن طبعه الغا
درِ، واستدرج المكانَ الزامنُ
وإذا بالعراق يجري الفراتا
ن به القهقرى، وتهوي الجِنان
* * *
اقتلعتني تلك المباراة، فذهلت عن نفسي، بتأثر وجداني بجيشانها حتى جهلت مقامي إزاء تلكما القامتين الشامختين، فرحت أخربش (يقظان، أو بكائية للزمن):
ألشَّجَا الْمُرُّ، مَا يَنِزُّ الْبَيَانُ؟
أم رُؤَىً أَجْهَشَتْ بِهَا الْأَوْزَانُ؟
أَمْ نَحِيْبُ الْوَرِيْدِ يَنْطِفُ وَجْدًا
قُرْمُزِيًّا تَنَخَّلَتْهُ الْبَنَانُ؟
وَرِيَاحٌ تَنَفَّسَتْهَا الْقَوَافِيْ
مِنْ رَزَايَا فُرَاتِنَا؟ أَمْ دُخَانُ؟
أَمْ دَمٌ مُسْرَجٌ بِفَيْضِ الْحَنَايَا
تَغْتَلِيْ فِيْ رَنِيْنِهِ الْأَلْحَانُ؟
أَشْرَعَتْ حُزْنَها، وَمَدَّتْ أَسَاهَا
فَانْطَوَى الْعُمْرُ، وَاسْتَكَانَ الزَّمَان
ومنها:
يا أبا عادلٍ، وياجد يقظا
نَ أيدري أساكما يقظان؟
أدرى بالفرات كيف تهاوت
من منارات عزِّه التيجان؟
لا أدري كيف تدافع ذلك السيل فلم يقف حتى بلغت القصيدة 124 بيتًا، تلتها أخرى بعنوان: (يقظان أو مأتم الفرح):
أَيَقْظَانُ، هَلْ لِلْفِيْحِ مِنْ بِيْدِنَا قَلْبُ
فَيَخْفُقُ فِيْهِ الْوَجْدُ، أَوْ يُوْرِفُ الْحُبُّ
إِذَا عَزَّ فِىْ الرَّوْضِ الْأَزَاهِيْرُ وَالشَّذَا
فَيَا عَجَبًا أَنْ يُوْرِفَ الصَّفْصَفُ الْجَدْبُ!
تَجَاَفَتْكَ أَفْوَافُ الضِّفَافِ وَدَوْحُهَا
وَحَلَّأَكَ اللَّيْمُوْنُ، وَالنَّخْلُ، وَالْعُشْبُ
وَتَحْسَبُ أَنْ تَحْنُوْ عَلَيْكَ فَدَافِدٌ
وَتَمْنَحَكَ السَّلْوَى الْجَنَادِلُ وَالْهُضْبُ؟
مَتَى أَمْطَرَ الصَّوَّانُ أَوَ جَادَتْ اللَّظَى
بِنَاسِمَةٍ؟ أَوْ مَدَّ أَفْيَاءَهُ السَّهْبُ؟
وَلَكِنَّ عَصْرًا بَلَّغَتْنَا صُرُوْفُهُ
إِلَى حَيْثُ لَا يُرْجَى طَبِيْبٌ، وَلَا طِبّ
يَجْوزُ بِهِ أَنْ يُنشَدَ الثَّلْجُ فِيْ الْغَضَا
وَتُسْتَمْطَرَ الشِّعْرَى، وَيُحْتَلَبَ الضَّبُ
تبعَنا - بعد ذلك - شعراء؛ السيد منير الخباز، الأستاذ عامر عبد الحسين عباس، (أبو يقظان)، أحمد سليمان درويش، الشيخ جعفر الهلالي، السيد مهند جمال الدين، خال اليقظان، الأستاذ محمد رضي الشماسي، الشاعر جاسم الصحيِّح، الشاعر يحيى محمد راضي، فكانت الحصيلة ديواناً كاملاً هو: (اليقظانيات أو أناشيد وليد الصحراء).
تلك شقشقة هدرت بما هو محزن كئيب، فما لنا ولصدام؟ لقد انتهى أمره إلى حفرة لم تنجه من حبل المشنقة، نهاية كل طاغية، غشوم، فهلم نخفف الوطئة بشيء من دعاباتك إن سمحت.
درَّت النياق
انتقل الدكتور جاسم الأنصاري، من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن إثر تعيينه مديرًا عامًّا لمشروع الجبيل، وأقيم له حفل عشاء في الجامعة مساء يوم الأربعاء 18 جمادى الآخرة 1414هـ، سبتمبر 1993م، فألقى أستاذ اللغة العربي بالجامعة الشاعر محمد رضي الشماسي -رحمه الله-، قصيدة ضاحكة منها:
رويدك، هل يسمو جُبيلٌ على جبل؟
وهل ينفع التصغير للمرء لو عِقِل
وهل بعد عزٍّ في شموخٍ ومنعةٍ
يُرى المرء في سفح بعيدًا عن القُلل
فذا جبَلٌ يشتاقه كلُّ طامحٍ
وذاك جُبَيلٌ ليس تشتاقه المقل
جبيلٌ وفي التصغير معنى لعارفٍ
وهل قِيسَ بحرٌ، يا خليليَّ، بالوشل
وهل جبلٌ قد قيس، عند ذوي الحجى
أبا ماجدٍ يومًا، برأسٍ من البصل؟
فكيف يعاف المرء قِمَّة شامخٍ
منيعٍ، ويرضى بالقليل، وبالأقل؟
فذا جبل الظهرانِ مخضوضلُ الرؤى
وذاك جُبيل الخير ما اخضر أو خضِل
فرددت عليه غاضبًا حميةً للجبيل الصناعية حيث كنت تعمل، فأطلقت قصيدتك (درَّت النياق):
شَمَخ الجُبَيلُ على الجَبَل
والدِّبسُ تاهَ على العسل
وتراجعت شُهْب الخيو
ل عن السباق مع الجمل
وتراجف السيف الصقيلُ
أمامَ سِكِّينِ البصل
فتحيَّر الميزانُ؛ أيُّ
الكَفَّتين هي الأقل؟
* * *
أخي الرضيُّ، تبدَّلت هذي الحياة على عجل
لكنَّ أعيننا الكحيـلةَ قد تغشَّاها الكسل
إذ لا ترى إلاَّ قليـلاً من مساحات الأمل
ها هم صحابك قد تفرَّق جمعهم مثلَ الشُّعل
هذا يريد المستحيـلَ وذاك أقنعه الوشَل
والثالث الموهوبُ نا هله الزمان بها فحل
لم يبقَ إلاَّ أنت تبحث في المدينة عن طلل
وكذا هم الشعراءُ أحـلامٌ يُطوِّقها الشلل
فدعِ الجُبَيلَ إلى الجبل واركض فقد أزف العمل
دع سيبويه وصَحبَه يتنازعون مدى الأزل
ما ذا يهمك حين يُنـصبٌ فاعلٌ أو يختزل
احلب، فقد درَّت نيا قُك، يا صديقي، بالهبل
* * *
فانضم إليك الأستاذ الشاعر محمدَ سعيدٍ البريكي مناصرًا لك على الشماسي ختَنَه على أخته، وكان من الهاربين من أسر الجامعة:
أخِي كُفَّ عن ذَمِّ العروسة في الحُلَل
جُبيلٍ، ولا تُكْثِر من الحَيفِ في الزَّلل
أغرَّك من ظهرانكم ذلك الجبل
وما هو إلاَّ صخرةٌ تُورِث الملل
به قِممٌ مخفوضةُ الرأس هشَّةٌ
قميءٌ، فلا يحمي، إذا البأس قد نزل
ولو شاءَ ربي أنعشته زراعةٌ
ولكنه خالٍ من الزرع، لم يزل
به من بني الإنسان من كل مهنةٍ
ولكنهم لا ينتجون به بصل
به معهدٌ للعلم عَجَّ بفتيةٍ
إذا نجحوا فرُّوا إلينا على عَجَل
لكيلا يموتوا من عناءٍ وفاقةٍ
فليس سوى الإفلاسِ إن أبطأ العمل
إذا ما أرادوا السير عرقل سيرَهم
مطبَّات يورثن البواسيرَ والعِلل
ولا قاربٌ يرسو، ولا مركبٌ رحل
ولا شَفَقٌ يُلقي على الموج عسجدًا
ولا الشمس راضت هائج البحر بالقبل
سوى ضجةٍ من طائراتٍ تتابعت
بأصواتها أضحت تثير به الوجل
فمهلاً، أبا الأطياب، عن ذمِّ موطنٍ
بدا عنده ظهرانكم يشبه الطلل
* * *
وفي الختام، إليك أزكى التحية، وأصدق المحبة، والسلام.
** **
- عدنان السيد محمد العوامي