عندما طلب مني الكتابة عن الشاعر محمد العلي انتابتني مشاعر شتى... المتعب منها، من أنا في دنيا الأدب لأكتب عن نجم من النجوم الساطعة، وماذا سأضيف لسيرة هذا الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس لأكثر من نصف قرن؟ عندما كنت أقرأ له - هو الضنين علينا نحن قراءه - أشعر أنني أمام حالة شعرية فريدة ومتميزة، وتجربة شعرية لا تشبه أحداً فما بين النزعة الكلاسيكية والحداثة، نقف أمام نص مفعم باللغة تلك التي لا تحدها المعاجم وحدها.. من حيث الدقة في المعنى والسلامة في الاشتقاق، يأخذنا العلي إلى الجذر الأول للكلمة ينفض عنها الغبار ويدفعها إلى الضوء والهواء لتحلق من جديد، كما حصل في قصيدته العذبة «دارين» حين أعاد قراءة تاريخ تلك المنطقة شعرياً، ولكن بصورة تختلف عما تناولتها القراءات الشعرية التي سبقت هذا ما جعل شعر العلي وثيق الصلة بالعصر وفي الوقت نفسه، استمرار عضوي للشعر العربي في أبهى صوره.. ومن يعرف تجربة هذا الشاعر نجفياً يدرك تماماً عمق الصلة بين الماضي والحاضر عنده، فالشاعر لغوياً هو إبن الحوزة النجفية التي استطاعت أن تحافظ على جذور اللغة، وتحميها من التفتت والانهيار، فالنجف بالإضافة إلى وظيفتها الحوزوية كان الشعر حاضراً في جنباتها بقوة، هذا ما رواه لي العلي في لقاء أجريته معه سابقاً في برنامجي «المرصد الثقافي» قال لي: «إن الشعر كان متنفساً ورئتنا التي تصلنا بالعالم خارج تلك البيئة الصارمة»، وهذا ما أكده السيد محمد حسين فضل الله والسيد محمد حسن الأمين والسيد محمد بحر العلوم لاحقاً، هؤلاء كلهم من المجاميع التي رافقت العلي في تلك المرحلة، حيث كنت أجريت معهم حوارات مطولة حول البيئة الشعرية في النجف -رحمهم الله جميعاً-... وأطال بعمر شاعرنا الكبير.
ثانياً، أود في هذه الشهادة أن أتحدث عن محمد العلي الإنسان الذي طالما كان حلم مصافحته عن قرب أحد أحلامي وأنا الشاعرة المبتدئة والإعلامية التي ترسم ببالها حوارات مطولة مع نجوم الثقافة العربية وركائزها التي شكل شاعرنا إحداها... اتصلت به على خوف ومهابة فأجابني بود وابتسامة أهلاً بنوال وكانت تلك الكلمة السحرية فاتحة صداقة امتدت لسنوات طويلة ولا تزال، عرفت العلي الشخص الودود المتواضع الخجول يحمل بين جنبيه قلباً يسع العالم ينام على التفكير والأمل بمستقبل هذه الأمة ويصحو عليه، وإلى جانبه السيدة الشريفة العلوية أم عادل الجميلة الباسمة التي تعرف وتقدر وتحترم حياة الشاعر محمد العلي قبل حياتها الزوجية معه وتترك له كل الفضاءات التي تناسب وجود الشعر ومزاج الشاعر، قلة من البشر يعرفون هذا النوع من الفضاءات الحرة لعل هذا سبب لا يجب أن نغفل عنه في سيرة الشاعر، فالراحة والطمأنينة الأسرية عنصر مساعد على خلق بيئة مستقرة للكتابة.. لم يكن العلي متاحاً للجميع وليس متوفراً بسهولة، فلذلك جاء هذا الغياب المحترم ليزيدني تعلقاً به ومحاولة التقرب دائماً من عالمه الشعري والشخصي على حد سواء كنت كلما قدت سيارتي من بيروت إلى منزله ببرمانا، أعرف أني سأتلقى وجبة دسمة من المعرفة بنكهاتها المتعددة... شعراً ونثراً ومسرحاً ورواية، ولا تخلو الجلسات من حديث السياسة المتعب، الذي غالباً ما ينهيه تهكماً على طريقة محمد الماغوط. ينظر العلي وهو جالس في حديقته يراقب المدى المفتوح على سلاسلة لبنان الجبلية ويقول: أنا هنا في عزلة أنا اخترتها ولكنني محاط بالكثير من الناس، أتصفح أدونيس والسياب وأبحر بكتب الحضارة فهؤلاء تركوا لنا الكثير ومعهم يكون الزمن لا حد له، من يعرف العلي جيداً سيعرف ماهية الزمن عنده وعلاقته به. إذا كانت الطبيعة الجبلية مستقراً صيفياً له، إلا أنه وهو في حضن خضرتها يبقى مسكوناً ومفتوناً في الماء فصاحب ديوان «لا ماء في الماء» تتدفق زرقة الأنهار من كفيه، ويعتبر أن حضور الأنهار في حياته من أبهى ما تختزنه روحه الشعرية، فهو المتيم بدجلة والفرات والنيل، ويتماشى شعرياً مع خطوط هذه الأنهار الثلاثة تحديداً وعندما نتحدث عن الماء أمازحه دائماً يقول: (عمي أبوعادل شنهو كأنك برج الحوت شعريا) كان آخر لقاء لي معه في حديقة منزله تجرعنا معاً لوعة الغياب، بعد من رحل من أحبائنا يومها كانت غيوم برمانة رمادية تشي بحزنفيف وقتها أبى العلي البكاء فعلق نظرته بتلك السحابة الرمادية مددا.
حين يفرد كل مساء جناحيه
تدنو الغيوم الحزينة تلك
تلك التي كورت في النهار،
لتهطل في كل قلب
حين يفرد المساء جناحيه
تجلو الكآبة مرأتها
تتعرى مخالبها المضمرة
تطمئن لأنيا بها .. ثم تلبس
مايلبس العاشقون
لتدخل في كل قلب
وتشرب مافيه من فرح وأغاريد
نعم تلك هي الحداثة الشعرية في منطقة الخليج والتي كان العلي حادي قافلتها... ودخل لأجلها ولأجل الحرية معارك كبرى دفع وما زال يدفع الكثير من مدارات العمر والصبر غير نادم، وحين سألته ذات يوم لو عدت إلى البداية، قبل أن أكمل قال لي: سأفعل ما فعلت حرفياً لأني غيرت وبحثت وكتبت وناضلت عن قناعة. ثانية لا يزحزحها شك لا يزال العلي يمثل لي اليقين المطلق وصاحب الإنجاز الشعري المميز الذي سنتذكره دائماً وأبداً. ذكراك محمد العلي على يقينك أن الأدب وحركة تطوره عند الشعوب ستبقى صلة الوصل والرحم لما
** **
- د. نوال الحوار