يمثل الأديب والشاعر محمد العلي أحد رواد الحداثة الشعرية في المملكة، فقد برز علماً في مختلف فنون الأدب والكتابة وتبوأ موقعاً ريادياً في هذا المجال. فقد أثرت حياته الحافلة في كنف المدارس الفكرية والأدبية المتعددة وتفاعله معها سواء في المملكة أو في العراق، وكذلك تواصله مع مختلف الأدباء والشعراء، أثرى ذلك كله تجربته الأدبية وانعكس على إنتاجه الذي تميز بالعمق والتنوع وديمومة العطاء. جمع العلي بين الدراسة الدينية التقليدية في مدينة النجف - أم العلوم الدينية - بما تحتويه من علوم الدين واللغة بأنماط كلاسيك ودوائر حوزوية (معاهد دينية) منضبطة، وبين التفاعل مع المحيط الفكري والأدبي المنفتح على مختلف الآراء والاجتهادات التي تبدو متعارضة، أي بين دوائر دينية محافظة ومدارس فكرية متعددة. هذا التمازج المنهجي والفكري واللغوي الذي أنتج الشخصية المتميزة وجعلها قادرة على إحداث حالة من التواصل المعرفي مع دوائر فكرية واجتماعية أكثر سعة وشمولية. من هنا جاءت إسهامات الأديب العلي في تأسيس جمعيات ورابطات أدبية تعنى بفنون الشعر تفاعلاً مع بزوغ فجر الأدب العربي الحديث في المنطقة وانطلاقة رموزه واهتمام رواده، على الرغم من كل الإشكالات والتحديات التي واجهت هذه الموجة التحديثية في الشعر العربي.
ووجهت له سهام المشككين والمترددين حول توجهاته واهتماماته الأدبية والفكرية، إلا أنه كان ثابتاً على أطروحاته ومعالجاته. وحيث إنه كان مشاركاً في العمل الثقافي عبر أكثر من موقع كالشعر والأدب والمقالة والاعلام، فقد كان قادراً على التعبير عن أفكاره الجريئة والجادة حول مختلف القضايا الفكرية والاجتماعية، فناقش بعمق أبرز الأزمات التي تمر بها المنطقة العربية من النواحي الفكرية والسياسية، وقدم أطروحات نقدية حول الواقع المعاش، مستشكلاً على ضعف وندرة مناهج النقد والتفكير الحر وتجاوز العودة للماضي وتغييب التفكير المستقبلي. في محاضرته الثرية التي ألقاها في منتدى الثلاثاء الثقافي بتاريخ 2014/3/4 م تحت عنوان “موانع نمو المعرفة“ لخص فيها أبرز آرائه وأفكاره فيما يتعلق بالمعرفة وكونها أحد أهم روافع العقل الإنساني نحو التقدم والنهوض، وبدونها لا يمكن تحقيق أي نهضة إنسانية حقيقية، ومؤكد على ضرورة تفكيك المعارف لتحديد مدى صحتها أو خطئها حيث إن المقياس في ذلك هو مدى مواءمتها لمصلحة الإنسان وتطور درجاتها من الملاحظة للفرضية ثم التجربة. وانطلق ليعدد موانع المعرفة والتي لخصها في اليقين والايدولوجيا والتقليد والثقافة السائدة والاقتصاد عندما يكون عائقاً للعدالة الاجتماعية والفهم اللاتاريخي للنصوص. وملمس هذا الهم الإصلاحي والتنويري العميق والمترسخ لأديبنا المعرفة في مختلف اطروحاته التي جاءت كعناوبن لمؤلفاته، ومن بينها “نمو المفاهيم: تساؤلات وآراء في الوجود والقيم“، “البئر المستحيلة: محاولات لتجاوز السائد في الثقافة والمجتمع”، “حلقات أولمبية: مقالات في قضايا التنوير والحداثة“، ومئات المقالات التي نشرتها الصحافة المحلية والعربية، وتناولت أطروحات تنويرية وتجديدية كانت تعتبر صادمة وخاصة في الأوساط التقليدية. لقد شكلت تجربة الأديب المعرفي محمد العلي مدرسة رائدة في المجال الأدبي والفكري، ولامس في أعماله قضايا ومواضيع غاية في الأهمية والجدية ، وطرحها بأسلوب نقدي مقدماً معالجات مهمة هي بحاجة إلى المزيد من التأمل والمراجعة والتحليل كي تقدم على شكل كتابات موسعة، فقد قدمت لحد الآن كأفكار محاولة ومركزة بحاجة إلى تفكيك وتفصيل للاستفادة منها بصورة أفضل. قليلة هي الدراسات والأبحاث التي اتجهت لتحليل الخطاب الفكري للأستاذ محمد العلي، ولعل الجانب الأدبي وخاصة الشعر نال اهتماماً أكثر من قبل الأوساط الأدبية والثقافة، وهي دعوة لإعادة قراءة الفكر الذي قدمه أديبنا المعرفي محمد العلي حفظه الله.
** **
- جعفر الشايب