كان الأستاذ محمد العلي معلما في ثانوية الدمام، وذلك عام 1967 و1968. أراد أحد طلابه أن يكرمه بطريقته الخاصة. تشجع الطالب محمد الهواشم ووقف معلنا استعداده أن يغامر بتمثيل دور الأستاذ محمد العلي في حفل المدرسة الختامي.
حذره أحد الزملاء من غضبة الأستاذ التي لا تبقي، ولا تذر:
ـ إياك والأسد.
واستشهد ببيت المتنبي مقلدا طريقة أستاذهم الفريدة في إلقاء الشعر:
إذا رأيت نيوب الليث بارزة
فلا تظنن أن الليث يبتسم
إنه ليس التحذير الوحيد الذي تلقاه الطالب الجسور منذ عقد العزم على تمثيل شخصية أستاذه. تحذيرات كثيرة قذفت رعبا في قلب الطالب. أوقعته في حيرة. هل يتراجع؟ أم يتوكل على الله ويغامر؟ على كل هذه هي آخر سنة، وبعدها سينتقل إلى القسم العلمي. ليس هذا ما يقلق الطالب المغامر، ولا خائف أن ينهش ظهره العقال الذي يتوعد الأستاذ به الطلبة المقصرين والمشاكسين أن يسلخ جلودهم به. أشد ما يقلقه الفشل في تجسيد أبعاد شخصية العلي. شخصية ليس بالأمر السهل تقمصها، كيف! وهي تجمع الأضداد الرقة والقسوة الجد والهزل، تقلب مزاج الشاعر بين الحدة واللين، بين الحزن والفرح، بين الغضب والرضا، سواء كان في حالة الابتهاج حد الضحك الهستيري، أو كان يترنم بالقصيد وأساريره منفرجة، أو حالة الصمت المطبق، حيث الوجه المكفهر والمقطب، النظرة الحادة المرعبة، وكأنما الرجل يعاني من اضطراب ثنائية القطب.
تضاف لهذا مهمتان متناقضتان وعويصتان الأولى إرضاء الجمهور من هيئة التدريس وأولياء الأمور والطلبة بتقديم وجبة دسمة من الضحك. والأخرى تكريم الأستاذ وتبجيله، وتجنب كل ما يمس مكانته الرفيعة ومعزته لديه، يريد أن يقدم له الشكر والتقدير لما بذله من جهد في تعليمهم اللغة. إنه معلم استثنائي لم يعلمهم قواعد اللغة وجماليات بلاغتها فقط، بل غرس فيهم حبها. وما اكتفى بذلك، فهو لم يكن معلما يشرح الدرس فقط، ويلتزم بحذافير ما جاء في الكتاب، بل كان مربيا غيورا يحمل رسالة سامية. هي إضاءة عقول طلابه ودروبهم بشذرات من فكره المستنير، وأن يستنهض هممهم ليكونوا كوادر فعالة وخلاقة في صياغة مستقبل الوطن، ويسهموا في نهضته.
بذل الطالب محمد الهواشم جهده، وكرس موهبة التمثيل المتواضعة التي يمتلكها لإرضاء الجمهور، وإرضاء أستاذه في الوقت ذاته، وذاك هو الأهم لديه، فالأستاذ على الرغم من حزمه يظل القريب من الطلبة. هذا أقصى ما يطمع فيه، سيحمد الله إن وفق وأدى هذا الدور بنجاح. هناك إشكال آخر لم يضعه في الحسبان. كيف سيجسد مقام أستاذه في فقرة قصيرة من دقائق معدودات ضمن فقرات الحفل؟ كيف يأتي بإيجاز يفي حق أستاذه وحق الجمهور. كيف يُضحك الجمهور على أستاذه دون أن يمس مهابته. إنها معضلة عويصة حلها يحتاج لإعجاز.
اهتدى لتمثيل شخصية أستاذه في لوحتين، في مشهدين متناقضين يجسدان شخصية العلي في الصف مع طلابه. مشهد يرسم أستاذ اللغة العربية واقفا في الصف، وهو يشرح درسا في قواعد اللغة، هادئا رائقا سمحا طويل الأناة، باذلا جهده في تبسيط قواعد اللغة الصلدة بأمثلة حية مما حولهم، حتى يسهل هضمها. وبمجرد أن يشعر أنه استوفى الشرح، وأن الطلبة تمكنوا من فهم الدرس يصرخ منفعلا بمفردته الأثيرية المجلجلة:
ـ واضح.
وينهال عليهم فجأة بأمثلة من الشعر العربي الرفيع. مثال من الشعر الحديث، يقابله آخر من الشعر العربي القديم، ويا ويل من يخونه حظه العاثر ولا يجيب من لسان سليط كالسوط، ومن وعيد شديد أن ينهال عليه ضربا بالعقال. ولكي يضحك الحضور قرر الطالب النجيب أن يستبدل أمثلة أستاذه البليغة بأمثلة ركيكة ساخرة مما هو معاش اليوم، وهذا ما يتفق مع نهج أستاذه الذي يطالبهم دائما بأمثلة من اللغة الحية، من إبداعهم لا من أمثلة الكتاب.
اعتلى المنصة طالب نحيف متوسط الطول، انحنى تحية للجمهور، وهو يسترق النظر إلى أستاذه، يا لها من مواجهة صعبة. كم هو مربك الوقوف على خشبة المسرح أمام هيئة التدريس والضيوف وأولياء الأمور وحشد من طلاب جميع الصفوف. والتحدي الأكبر أن يمثل دور مدرس له مهابته بين هيئة التدريس قبل الطلبة، الجميع يكنون له الاحترام والود، وبينهم من يخشى بأسه، كأنه هو من يدير المدرسة. كان العلي جالسا في منتصف الصف الأول. تخيل الطالب الليث يتمطى مكشرا عن أنيابه، وإن كان يبتسم. دور صعب شعر أنه وضع نفسه في ورطة، سرت في جسده النحيف رجفة، تمالك نفسه وألقى على الحضور نظرة طويلة عابسة استوحاها من نظرة معلمه الثاقبة، لقد تدرب على تلك النظرة طويلا حتى ظن أنه أجادها، في حقيقة الأمر تدرب على ثلاث نظرات من نظرات العلي العديدة. نظرته الأبوية التي تفيض حناناً، وهو يشرح درسا جديدا في قواعد اللغة، أو البلاغة. والثانية نظرة تهكمية ساخرة تسندها تكشيرة. والثالثة نظرة عابسة من زاوية عينيه تلك التي أطلق عليها الطلبة النظرة الراجفة، التي غالبا ما تنم عن وعيد وتهديد، وتسبق العاصفة.
بعد أن استهل دوره بالنظرة الراجفة، جال بها في وجوه الحضور صامتا، يا لها من نظرة محملة بالمعاني الثقال، فصاحتها تنوب عن بليغ الكلام، فجرت في الحال ضحكة الأستاذ. تعززت ثقة الطالب في نفسه، فاستدار متوجها للصف، حيث نهض الطلبة تحية لأستاذهم في انضباط عسكري، ثم خيم الصمت، اقترب من السبورة بشموخ. حاول أن يكتب بطبشور عنوان الدرس، أبى الطبشور الرديء أن يكتب، نظر عابسا إلى الطبشور العصي، فاكتشف أن ما بين أصابعه ليس طبشورا، إنما سيجارة، يريد الطالب أن يشير لشراهة أستاذه في التدخين، رماها منفعلا دهسها بحذائه متقززا، نكس الطلبة رؤوسهم ليخفوا ضحكاتهم، يتناول كسرة طبشور ويكتب: درسنا اليوم الفعل المضارع.
كان الطالب وجلا، يسترق النظر بين الحين والآخر إلى أستاذه، كأنما يلتمس منه الأذن أن يواصل تمثيل دوره. معذور الطالب فالأمر ليس هينا، والعلي قريب من المنصة في وسط هيئة التدريس، لا حاجز، ولا أحدا من الحضور سيتجاسر ويمنعه أن يمتشق عقاله، ويجلده أمام الجمهور إن تمادى وتجاوز حد اللياقة، في هذه اللحظة المتوترة تفجرت ضحكة من الأستاذ مجلجلة، جعلته يستلقي عليه. كانت كعكعة وفق معيار الثعالبي، زودت الطالب بجرعة من الحماسة، لقد فهمها أنها موافقة كريمة من أستاذ كريم، فواصل الطالب شرح الدرس:
ـ من يأتي بفعل مضارع معتل الآخر؟
وأضاف وهو ينقر بسباته منفعلا خشب المنضدة:
ـ كما قلت لكم سابقا لا أريد مثالا من أمثلة الكتاب المحنطة، ولا من أناشيدكم الرثة، أريد أمثلة من لغة اليوم الحية.
عن أي شيء تافه، عن سوق السمك، عن أحوال الطقس، حتى عن مباراة كرة قدم.
وصرخ فيهم من جديد:
ـ واضح.
ولأنهم يستعدون لاستقبال العطلة الصيفية، بداية القيظ انتهز الطالب الفرصة ليزف لأستاذه ابن الأحساء بشائر القيظ جملا تشيد بأحلى الرطب، ولقاطني الدمام جملا تتوعدهم بزخات من الرطوبة. بين كل مثال وآخر يطلق صرخة مدوية مبالغة:
ـ واضح.
ثم انتقل إلى المشهد الثاني. يظهر فيه الأستاذ العلي صامتا متجهما كئيبا منفعلا وغاضبا، يدخل الصف، ويرد على تحيته طلبته بهشة من يده تعكس مزاجه العكر، ثم كتب بتقزز على السبورة عنوان موضوع درسنا اليوم: غراب على زيتون.
عنوان لموضوع التعبير غامض مبهم. أوقع طلابه في حيرة. ماذا يعني غراب على شجرة؟ إنه أصعب من عنوان الدرس السابق: الوطنية والوطن. على كل هذا ليس بالجديد عليهم، تعودوا أن يفاجئهم أستاذهم بمواضيع غريبة تربكهم، ألم يطلب في أسبوع النظافة أن يكتبوا موضوعا غريبا بعيدا عن فعاليات هذا الأسبوع: اكتب عن حذائك موضوعا لا يقل عن سطر، ولا يزيد عن دفتر.
ماذا يكتبون عن غراب على شجرة؟ تعودوا إذا رأوا الأستاذ منفعلا أن يتجنبوا الأسئلة التي قد تجعله يستشيط غضبا، ويتهمهم بالغباء. ليتريثوا قد يتكشف لهم غموض العنوان الغريب إما بقصيدة سيترنم بها بعد حين، وإما خطبة عصماء يسكبها في مسامعهم. وغموض آخر يفيض من نظرة الأستاذ الحادة التي تتطاير شررا.
عادة في درس التعبير يكون مرحا ودودا وأكثر لينا وتقبلا لما تطرح من آراء واستعدادا لمناقشتها. يوسع بتداعياته فضاء درس التعبير المحدود مشجعا إياهم أن يدلوا بآرائهم، وما يجول في خواطرهم دون محاذير، ولا وجل، وكثيرا ما يحدثهم عن فن الكتابة ويسوق الأمثال بصبر وطول أناة ليحيل حصة التعبير درسا جادا مهما خلاف المعتاد، مساحة للإبداع والبوح لا حصة للترفيه والاسترخاء، لكنه في هذه الحصة منفعل، منحرف المزاج.
تبادلوا النظرات حائرين انتظروا النجدة تأتيهم من زميلهم محمد الذي أعلن أنه لا يخشى أن ينهش ظهره العقال. أرسلوا إليه نظرات توسل، أن يستوضح الأستاذ، فنهض وسأل:
ـ يا أستاذ هل كان الغراب على الشجر ينعق؟
أجاب منفعلا:
ـ نعم هل سمعت يا غبي غرابا يغرد، أو ينهق؟
ثم أضاف متهكما:
ـ نعم ينعق ولونه أسود، وانهزامي ومتخاذل. إنه ينعق خارج السرب بصوت نشاز، وبلا خجل يعظ شعبا اغتصبت أرضه قائلا: اقبلوا بما يمنح لكم وطالبوا، لكن الشعب الحي الأبي رد على المتخاذل.
***
تلاطمت أمواج من الضحك. ذروتها كانت ضحكة العلي المدوية، لتلتقي بأمواج من التصفيق لم تتراجع إلا لتفسح المجال أن يهتف الحضور لفلسطين وقوفا. التقط العلي أنفاسه، ونهض مصفقا لطالبه، جذلا لم يذهب تعليمه سدى، نشوان أن البذرة التي ألقاها أتت أكلها. فتح ذراعيه كأنه يهم بعناق طالبه المشاكس، ويمنحه قبلة والدرجة كاملة.
** **
- عبدالله محمد العبد المحسن