خالد بن حمد المالك
لا يحتاج السودان إلى مزيد من التقسيم والانقسام، وإلى تمزيق البلاد إربًا إربًا، فيكفيه انفصال الجنوب، وما أحدثه هذا الانفصال من خلل في وحدة البلاد، لتأتي المحاكاة هذه المرة من الشرق مهددة قوى هناك بالإعلان عن حكومة مستقلة، ما يعني أن أجزاء من الأرض السودانية هي الآن على لائحة الانتظار لتحقيق مشروعها في الانفصال.
* *
لقد عانى السودان خلال الاحتلال وما بعد الاحتلال من تفريط بمصالح الوطن والمواطنين في دولة زراعية وواعدة لقيام مشروعات صناعية، نسبة إلى ما يتوفر فيها من مقومات وقوى عاملة لم تُستغل الاستغلال الأمثل الذي يجعل السودان دولة غير طاردة لمواطنيها الذين اختاروا العمل والإقامة في غير بلادهم، بحثًا عن لقمة العيش والاستقرار الأفضل.
* *
والعجيب الغريب أن السودان حُكم من العسكر ومن الأحزاب المدنية ومن الاستعمار، وأي من هؤلاء لم يستطع أن يدير الدولة على نحو يوفر الأمن والاستقرار وفرص العمل والعيش الكريم لشعب في دولة تتمتع بالكثير من محفّزات العمل والإنتاج، بسبب الاختلافات والصراعات، والانقلابات العسكرية، وغياب الصوت الفاعل لإنقاذ البلاد من مآسيه.
* *
لا شك أن الانقلابات العسكرية المتكررة صاحبها ممارسات دموية، وانتماءات لقوى خارجية، وإهمال لكل ما من شأنه أن يطور البلاد ويخدم المواطنين، فقد كان الهَمّ الأول والأخير للنظام العسكري كما هو حكم الأحزاب أن يظل الحاكم على كرسي الحكم أطول فترة ممكنة بصرف النظر عن أن في ذلك ما يخدم الوطن أو يساعد المواطنين.
* *
ومنذ تسلم عبود السلطة، مرورًا بالنميري، فالبشير لم يجد السودانيون في هذه الأنظمة العسكرية ما يكرِّس وحدة الوطن، أو يقضي على الانقسامات بين المواطنين، وإن كان حكم البشير هو الأطول والأسوأ والأكثر جُرمًا بحق البلاد والمواطنين، حيث سادت فترة حكمه التي امتدت لما يقرب من ثلاثة عقود عزلة البلاد عن العالم، والتنكيل بالمعارضة، والتفريط بمصالح الدولة لصالح قوى أجنبية، وممارسة الحكم بالعقلية والانتماء لتنظيم الإخوان المسلمين المصنَّف دوليًا ضمن الأحزاب الإرهابية.
* *
ولم تكن الأحزاب السودانية المدنية، وقد حكمت لفترات أقل من خلال صناديق الاقتراع أفضل شأنًا، وأحسن ممارسة، ولم يكن القبول بها، أو الانطباع الجيد عنها واردًا لدى المواطنين في ظل الصراعات فيما بينها، والانغماس في جدال ومناقشات لم يحصل السودان ومواطنوه منها إلا المزيد من التشرذم والانقسامات التي أدت بالسودان إلى ما انتهى إليه.
* *
بل حتى وبعد الإطاحة بالبشير وأعوانه، في ثورة شعبية، والإعلان عن صيغة تعاون بين المدنيين والعسكريين لفترة انتقالية يؤول الحكم فيها إلى المدنيين وِفق انتخابات نزيهة وشفافة، فإن هذا التوافق لم يسلم من المعارضين، ومن التهديدات بتشكيل حكومة موازية في شرق البلاد، ربما للاتجاه نحو الانفصال إذا لم تلب طلبات المعارضة في هذا الجزء من أرض السودان.
* *
ومن المؤكد أن السودان لم يخرج بعد من أزماته بعد التخلص من نظام البشير، إذ إنه يحتاج إلى مزيد من الوقت، وبالتالي فإن معالجة أوضاعه لن تتم إلا من خلال الحوار والدبلوماسية، وإعطاء القائمين على حكم السودان وقتهم للإصلاح والتغيير، فالتركة التي تركها البشير كبيرة، والتخلص من سلبياتها، والاتجاه نحو بناء الدولة السودانية الجديدة، لا تتم من خلال حمل السلاح، والمظاهرات العشوائية، والتهديد بالانفصال، فلعل العقلاء من السودانيين يراجعون مواقفهم، ويعملوا بما يحقق مصلحة السودان، وعلى الخيرين منهم أن يفوتوا الفرصة على أعدائه من الخارج، وعلى من كل همهم مطامع بكرسي الحكم في الداخل، فهذه ربما تكون الفرصة الأخيرة ليتعافى السودان، فاتركوه وشأنه لمن يريد أن يخدم البلاد بكل إخلاص وصدق.