سليمان الجاسر الحربش
حشد يموج وامَةٌ تنثال
وسنا يشع وعزة وجلال
بهذا البيت أتذكر أول مرة رأيت فيها الأديب الشاعر المرحوم عبدالله بن إدريس. وكانت المناسبة الحفل الذي أقامه أهالي الرياض احتفالاً بتولي الملك سعود عرش المملكة العربية السعودية بعد وفاة والده الملك المؤسس، وكان الشيخ حمد الجاسر هو مدير الحفل الذي قدم فقراته ومنها كلمة الأهالي.
كنا صبية صغارًا ندرس في القسم التحضيري الملحق بالمدرسة الأهلية التي كان مديرها الشيخ ابن سليم -رحمه الله- ثم ازدادت معرفتي بالمرحوم عندما التحقت بمعهد الرياض العلمي وكان مديره فضيلة الشيخ المرحوم عبداللطيف بن إبراهيم وأحد أعضاء هيئة التدريس بالمعهد الشيخ حمد الجاسر.
كانت الساحة العربية تعج بالأحداث التي تلهب حماسة الشباب طلاب المعهد، يأتي في طليعتها قضية فلسطين، وحرب التحرير الجزائرية وظهور الحركة الناصرية وما صاحبها من حملات إعلامية استبدت بمشاعر الجماهير العربية، كما هو معروف لكل من عاصر تلك الحقبة.
كان النادي الأدبي الذي يقام مساء كل خميس منبرا ً لاستعراض مواهب الطلبة الشباب وعلى رأسهم الشاعر الشاب عبدالله ابن إدريس، وكان النادي يقوم على أكتاف طليعة من الطلاب منهم ابن دريس وعلي العبداني وعبدالرحمن الرويشد وعبدالله العقل ومحمد العميل وعبدالله الزيد -رحم الله من رحل- وصالح الحمد المالك، ومحمد المسيطير، وإبراهيم العواجي وغيرهم، وكانوا جميعًا يقفون على أرض واحدة من حيث انغماسهم في القضايا العربية المذكورة قدوتهم في ذلك أستاذهم ورائدهم الشيخ حمد الجاسر، وقد تجلت هذه الروح في مناسبات عدة بلغت ذروتها عندما أقدمت فرنسا وبريطانيا وإسرائيل على مهاجمة مصر فيما عُرف بالعدوان الثلاثي في أعقاب تأميم قناة السويس، إذ تبارى الخطباء في شجب العدوان والسخرية من زعماء الدول المعتدية وهم على التوالي انطوني أيدن وجي موليه وديفيد بن جوريون.
كنا نترقب مساء الخميس تحسبًا لما في برنامج النادي من طرائف ومفاجآت نقتات بها طيلة الأسبوع، إذ كانت مصادر التسلية محدودة إن لم تكن معدومة.
خلال اشتداد الصراع بين المجاهدين الجزائريين والجيش الفرنسي المحتل ألقى ابن إدريس قصيدة حماسية مطلعها:
عكازتي بندقي في ساحة الرهب
ومقولي مدفعي في موطن الغضب
ومسكني زبية في رأس شاهقة
لكن ساكنها ليث من العرب
وللتذكير فقد قرأت هذه الأبيات على ابنيه الفاضلين إدريس وزياد في منزل أبي علي النعيم، طمعًا في مزيد من الحديث عن والدهم العزيز قبل وفاته.
غير أن أهم حدث سجلت ذاكرتي بعض جوانبه وإن كنت وقتها لم أكن محيطًا بكل
ما يجري في الساحة العربية، كان في خريف عام 1954:
كانت تلك الفترة تشهد أحداثًا مصيرية في مصر سببها محاولة الإخوان المسلمين اغتيال جمال عبدالناصر فيما عرف بحادث المنشية في مدينة الأسكندرية في عام 1954 تلى ذلك محاكمة بعض أفراد الخليه التي قامت بالمحاولة.
في إحدى أمسيات النادي فوجئنا بالسيد أحمد باشميل سكرتير هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة المكرمة وهو يعتلي المنصة ليلقي قصيدة يحاكي فبها قصيدة مالك بن الريب (ألا ليت شعري هل ابيتنّ ليلة).
ومطلع قصيدة باشميل هو:
خطوب تهد الشامخات الرواسيا
وأحداث عسف تستدر المآقيا
والقصيده مليئة بعبارات النقد الجارح للنظام المصري في ذلك الوقت الأمر الذي أثار حفيظة الشباب وأستاذهم حمد الجاسر فتوالت الردود والتعقيبات في الأسبوع التالي، وكان فارس الحلبة هو عبدالله بن إدريس الذي ألقى قصيدة سينبة يرد بها على باشميل لا أذكر منها إلا أنها كانت صريحة بشكل غير عادي، منها شطر بيت يقول بكل وضوح
«اجمال يرمى بالرصاص خيانة!»
ولفائدة القارئ فلم تظهر هذه القصيدة في ديوانه أو في الكتاب الذي أصدره المرحوم بعنوان «شعراء نجد المعاصرون»، وربما يفصح عنها أبناؤه وهم أدباء وأمناء على تراث والدهم. وأنوّه أن ما ذكرته من سيرة المرحوم ونشاطه في نادي معهد الرياض لا يتوفر في وسائل الاتصال الاجتماعي المتعارف علبها.
بعد ذلك عرفت المرحوم استاذًا لمادة العروض المقررة علينا ومفتشًا فنيًا بعد تخرجه من كلية الشريعة.
ثم تولى رئاسة تحرير مجلة الدعوة بطلب من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية، ووصوله إلى هذا المنصب وبهذه الواسطة وكيف أدار المجلة أمر أجهله ولعل من تابع هذا الفصل من حياة المرحوم يتولى توضيحه لجمهرة القراء.
رحم الله الأستاذ عبدالله بن إدريس
وامطر على قبره شآبيب رحمته.