د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
تستضيفُ واجهة الرياض العصرية منذ مطلع الأسبوع الماضي الموافق الأول من شهر أكتوبر الجاري تظاهرة ثقافية عملاقة، انسكب عليها وداد الرياض عاصمة بلادنا الحبيبة عندما نقلتْ الرياض كل مفرداتها الجميلة لترحب بالقادمين من أجل ثقافة الكتاب، وارتحلتْ معهم لتريهم إنجازاتنا في الآفاق إلى معرض فاخر للكتاب حوى واستوى؛ حيث كفايات المكان حطتْ هناك وحيث يستفيق الذهن ويتماهى، وحيث تكيل وزارة الثقافة التنوع الثقافي بأوزان جديدة، فبعد كل ارتياد للمعرض يعلو الصدى «وجهة جديدة وفصل جديد» فهناك رحلة نحو الكتاب! وإن كانت الثقافة وما زالت بتعدديتها وأوعيتها المرئية والمسموعة والمقروءة، ومنصاتها المنبرية ليست رحلة بل بقاء مشهود يعلن انصهار ثقافاتنا الوطنية مع العالم؛ ففي معرض الكتاب وفق المحصى ما يزيد عن ألف دار نشر، وهناك تجذّرٌ ثقافي مبهر في كثير من الملامح فلقد احتفى معرض الكتاب بصناعة الأفلام وإحياء المسرح، والموسيقى العالمية، والأزياء، والطهي ورواق الأطفال ومسترادهم الوفير الذي صان ضحكة الأطفال فأعشبتْ عقولهم كما دعا لهم «بدوي الجبل» وفي كل ذلك ولأجله عُقدتْ لقاءات وورش عمل مجزية..
ولأول مرة عُقد مؤتمر للناشرين في عقر دارهم، فصارت المستخلصات التنظيمية والتوصيات والتشارك المثمر في حيازة الناشرين وأصبحتْ صيدا ثمينا يُقدّرُ لبلادنا ولوزارة الثقافة ولهيئة الأدب والنشر والترجمة.
ولقد بدا جليا استقطاب المعرض للمزيد من الشرائح في معرض الكتاب وإليه؛ مما يؤكد أن المعرض بنسخته العصرية قد تجاوز النخبوية وانفتح فافتتح ووضعتْ عليه التمائم! ومن اللافت الاهتمام الكبير بالوجيب الوطني السعودي فلقد خصص المعرض منصات عرض لحزمة مضيئة من منجزنا الأمني العالمي مع أصدقائنا من الدول الشقيقة والصديقة مثل التحالف الإسلامي والعسكري لمكافحة الإرهاب الذي أسسه سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عام 1437هـ الذي قابلنا بشرح فياض ومجزٍ عن مستهدفات التحالف ضد الإرهاب الذي تقوده بلادنا باقتدار مشهود، ومنجزنا الإنساني ممثلا في مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، ومنجزنا التعليمي ممثلا في عروض الجامعات، ومنجزنا الإعلامي المرئي ممثلا بوهج القنوات التلفزيونية ذات العماد، وهيئة الإذاعة والتلفزيون، ومنجزنا المقروء وتعلنه الصحف السعودية العريقة التي تلوح مواقعها في معرض الكتاب بشموخ صحافتنا وصدقها عبر التاريخ، والمؤلفات السعودية التي بدتْ منافسا ودودا، ومنجزنا الرقمي في بعض التطبيقات التي حازت سمعة عالية وحضرت لمعرض الكتاب لتقدم مواثيق أخرى على جدارتها دعما ورعاية، كما انتصبت دور النشر تعبق برائحة الورق ممتزجا في بعضها بإخراج رقمي كذاكرة أخرى للكتاب، وبدا طيف سعودي واسع يملأ محاضن المعرض، وآخر عربي وعالمي، وجميع ذلك الاندماج يفرز شعورا باللذة التي تسيطر على زوار معرض الكتاب حين يقبضون على مستجدات جديدة ويحملونها لكي تحملهم يوما تقصيا وبحثًا وفضولاً مقبولاً!
ولا شك أن الاحتفاء بالمعرفة الإنسانية من خلال الكتاب مفتتح كبير على أرض الرياض الحبيبة؛ وكل عام نستشرف ومن ثمَّ نرى في معرض الكتاب إضافات جديدة، والكل يتوق إلى مستراد متين للكتاب من أجل الإبداع؛ وليس من أجل العرض، ومعرض الكتاب الدولي المتواشج مع سياسات الاندماج والمثاقفة التي ينشدها الوطن حقق هذا العام جزءاً مهماً من المستهدفات؛ فمعروضات الكتب منصة نقد صادقة فتقييم المنتج الفكري العقلي الذي تمتلئ به ردهات المعرض لا يجب أن يكون مختلفًا بل متواشجًا مع عزم قيادتنا تحصين نواتج بلادنا الفكرية من الخبن والهِنات، وكذلك ما يُستضاف في معارض الكتب مما يماثلها؛ حتى تكون الساحة الثقافية في بلادنا منبرًا لنشر المبادئ المثلى، وإضاءة الفكر المجتمعي وشحذ الهمم للنهوض, ولكي تستوعب محافل أخرى من صيد الأذهان المجزي، وقطوف الفكر وشذرات العقل، وقد بدتْ الانتقائية البصيرة المحترمة والمقنعة في المعرض هذا العام.
ومن المنطلقات القوية لتمكين صناعة الكتاب وترقية الذائقة وتعميق المكتسبات المعرفية الثقافية من الكتب ترقية الهدف من إقامة «معارض الكتب» حتى لا يُحسبُ وجودها من مصفوفات الترفيه فقط!؟ ليكون الهدف الأسمى ترقية المعرفة من خلال مشروعات تخدم الكتاب وتقرّبه إلى الأجيال زُلفى!
ولقد توشح معرض الرياض الدولي للكتاب هذا العام وشاحا فاخرا نسجه برنامج ثقافي رصين انتُخبتْ موضوعاته بآلية مبصرة والمتحدثون كانوا أكفاء أبحروا في موضوعاتهم بسلام؛ حيث كان المعادل الموضوعي وفيرا حاضرا في مشارب الجمهور، ورغباتهم،وحدود التلقي، وتحققتْ من خلال المنبر الثقافي مثاقفة راقية ودودة..
وما زلنا نحتاج إلى صناعات ثقيلة للفكر من خلال الكتاب، يحيطها قدر كبير من الانفتاح على العالم، وأن يكون ذلك منطلقاً لصناعة مبتكرة للفكر المقروء من خلال الكتاب ليكون ذلك من محفزات ارتياد معارض الكتاب من قبل الأجيال في حاضرها ومستقبلها.