وَما المَرءُ إِلّا كَالشِهابِ وَضَوئِهِ
يَحورُ (أُفولًا) بَعدَ إِذ هُوَ ساطِعُ
كل يومٍ وليلة نودع عددًا من الراحلين إلى الدار الآخرة، ففي هذا اليوم يوم الأربعاء 29 - 2 - 1443هـ، آخر شهر صفر الذي توافق مع آخر أيام الشيخ الحبيب الأديب عبدالله بن إدريس (أبو عبدالعزيز) من أيام الحياة الدنيا، فأديت الصلاة عليه بجامع الراجحي، ثم حُمل إلى مقبرة حي النسيم فوُوري جثمانه الطاهر هناك في أجواء حُزن وأسى، وكان مولده في بلد آبائه وأجداده بلدة (حرمة)، ونشأ فيها بين أحضان والديه، ومع إخوته وشقيقته وأبناء أعمامه وجيرانه، يقضون سحابة يومهم، وفي أوائل الليالي المقمرة في مزاولة هواياتهم ببعض الألعاب الحبيبة إلى نفوسهم كأمثالهم من الصّبية والأطفال.
وقد تلقى دراسته الأولية في بلدته (حرمة)، وكانت ملامح ومَخَائِل الفطنة والذكاء تلُوح على محياه، مما رَغَّبَ والده وشيخ (حرمة) عثمان بن سليمان إلى بعثة إلى الرياض لينهل من صافي العلوم الشرعية، واللغة العربية وآدابها..، لدى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية -آنذاك- بمسجده بحي دخنة.
هو البحر فازْدَدْ مِنْهُ قُرْباً
تَزْدَدْ من (الجهلِ) بُعْداً
وعلى شقيقه فضيلة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم في حلقات تلقي العلوم بمسجد سماحة الشيخ محمد بحي دخنة، الذي كان يعُجٌ بكثافة من طلاب العلم..، كأنه خلية نحلٍ، وقد نفع الله بهم في تلك الحقب الزمنية حيث تخرجت على أيدي الشيخين أعداد كبيرة من العلماء والقضاة والمعلمين.
ففي عام 1368هـ عين الشيخ محمد بن إبراهيم الأستاذ عبدالله بن إدريس مدرسًا للعلوم الدينية وقواعد اللغة العربية.. في المدرسة الفيصلية بالرياض..، وعند افتتاح المعهد العلمي بالرياض في عام 1370هـ، استقال من وظيفة التدريس والتحق بالمعهد دارِسًا في المستوى (الثالث ثانوي) ومواصلًا الدراسة بكلية الشريعة في الرياض عام 1373هـ، فتخرج منها ضمن أول دفعة في نهاية عام 1376هـ، أما أنا وزملائي بكلية اللغة العربية فنعد من الدفعة الثانية عام 1378هـ، علمًا أن المبنى كان يضم كلا ًمن كلية الشريعة وكلية اللغة العربية، مما سهل التعارف والتآلف بيننا معشر طلاب المرحلتين..، وخاصة في الفسح الطويلة.
وقد رُشح الفقيد للعمل بالقضاء فأعتذر تورعًا، ثم عُين مفتشًا فنيًا تربويًا في المعاهد العلمية عام 1377هـ، ثم مديراً عاماً للتفتيش والامتحانات في الرئاسة العامة للمعاهد والكليات (التي أصبحت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية)، وحين صدرت موافقة الملك فيصل - رحمه الله - على إصدار صحيفة الدعوة، طلب فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم من وزير المعارف حينها الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ إعارة خدمات الشيخ عبدالله بن إدريس إلى هذه المؤسسة الصحفية، رئيسًا لتحريرها فباشر الترتيب والتنظيم لإصدارها، حيث صدر عددها الأول في 15 محرم عام 1385هـ، صحيفة تصدر أسبوعيًا، فجمع بين رئاسة التحرير والإدارة العامة، وكان أول صحفي سعودي يجمع بين هذين العملين معًا، في عهد المؤسسة الصحفية، وبعد ثماني سنوات من العمل الصحفي.. في صحيفة الدعوة عاد إلى وزارة المعارف سنة 1393هـ، أمينًا عامًا للمجلس الأعلى للعلوم والفنون والآداب، وبعد ذلك انتقل إلى جامعة الإمام محمد بن سعود أميناً عامًا للجامعة، ثم مديراً للبعثات والدراسات العليا، ثم مديراً عاماً للثقافة والنشر العلمي وعضواً في (المجلس العلمي للجامعة) حتى تقاعد عام 1409هـ، وكان رئيساً للنادي الأدبي بالرياض منذ 1401هـ، حتى استقال منه في عام 1423هـ، وهو أحد المؤسسين الأوائل لهذا النادي في بدايته عام 1395هـ، كما تولى رئاسة تحرير مجلة (قوافل) الفصلية الأدبية الشهرية الصادرة عن النادي، وقد ازدهرت في تلك الحقبة الزمنية الكثير من النشاطات والفعاليات الأدبية والثقافية، وحضور الندوات والأمسيات الشعرية.
يتزيَّنُ النادي بحُسن حديثهمْ
كتزيُّنِ الهالات بالأقمارِ
وقد اشترك - رحمه الله - في عضوية الكثير من المجالس وعضوية الجمعيات العمومية الأدبية والصحفية، وعضوية شرف (رابطة الأدب الإسلامي العالمية)، وعضوية شرف رابطة الأدب الحديث في مصر..، وعندما كان رئيسًا لتحرير صحيفة الدعوة مَثّل الجريدة في مؤتمر القمة العربي (الثالث) في الدار البيضاء بالمغرب عام 1385هـ، مع الوفد الصحفي المرافق للملك فيصل -رحمه الله- وقد كرم في مهرجان الجنادرية كشخصية لعام 1431هـ، ونال عددًا من الأوسمة والشهادات في كثير من المهرجانات والمؤتمرات الأدبية.
والحقيقة أن قصيدة الوفاء المؤثرة التي كتبها الفقيد وهو على سرير المرض يخاطب زوجته ورفيقة دربه التي كانت أيضاً بجواره على سرير المرض، تثير كوامن النفس، وهو لا يدري من سيرحل أولاً؛ وتعد من أجمل قصائد المودة والرحمة بين الزوجين، وفيها قال رحمه الله:
أأرحل قبلك أم ترحلين
وتغرب شمسي أم تغربين
فإن كُنْتُ بادئ هذا الرحيل
فيا حزن رُوْحٍ براها الحنين
وإن كُنتِ من قد طواها المدى
فيا فجعة لفؤادي الطعين
سلكنا سويا طريق الحياة
وإن شابها كدرٌ بعض حين
ولنا مع الفقيد ذكريات جميلة منذ دراستنا لدى المشايخ قبل الدراسة النظامية، وفي المعهد العلمي وكليتي الشريعة واللغة العربية، وتبادل الهدايا من الكتب حيث أهداني نسخة من ديوانه الأول (في زورقي) الحافل بالقصائد المتنوعة، تغمد الله الفقيد بواسع رحمته ومغفرته، وألهم أبناءه وبناته وعقيلته (أم عبدالعزيز) وجميع أسرة آل إدريس ومحبيه الصبر والسلوان.
وَإِنَّما المَرءُ حَديثٌ بَعدَهُ
فَكُن حَديثاً حَسَناً لِمَن وَعى
** **
- عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف