د.عبدالله بن موسى الطاير
الإعلام الأمريكي إما كسول أو جاهل، عبارة للأمير بندر بن سلطان الذي خبر الإعلام الأمريكي وتعامل معه على مدى عقدين ونيف. فهل يمكن أن نضيف إلى قائمة النعتين السابقين نعوتاً يمكن أن تصدق على الإعلام الأمريكي، وهل يقتصر الكسل والجهل على الإعلام أم أنه ينسحب على ممارسات وأجهزة أخرى؟
يروي أحد قادة المخابرات العراقية أطرافاً من ذكرياته في سجون الاحتلال الأمريكي لبلده، ومن ذلك تصور المحقق الأمريكي أن صدام مختف في قنينة زجاجية في أعماق بحيرة ما، ويراقب ويوجه ما يجري من أحداث، والمحقق بهذا التصور إما أنه جاهل لدرجة أنه يتخيل أن المغامرات الكرتونية حقائق في بلاد العرب، وإما أنه كسول. ويذكر لي أحد الفرنسيين، وقد حضر اجتماعاً على مستوى قيادات الأركان لعدد من الدول التي أسهمت في دعم أمريكا في العراق للخروج من مأزق عام 2006م، حيث وضعت الخريطة أمام قائد الأركان الأمريكي الذي بادر بالسؤال عن موقعي أفغانستان والعراق على الخريطة، وهما الدولتان اللتان تخوض أمريكا حربين داميتين فيهما، وسعادته لا يحفظ موقعهما على الخريطة. ذلك الجاهل في فهمنا حرك فرقة فيها آلاف الجنود الأمريكيين من أفغانستان إلى العراق وأنهى الاجتماع في عشر دقائق. وأذكر شخصياً في محاضرة لي في واشنطن عام 2002م أن أحد الحضور وهو من النخب علّق على كلامي بقوله إنه كان يتصور أن الوهابية هي المرجعية السياسية في السعودية وأن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي ذراعها العسكري المسلح الذي ينتشر في الشوارع لحفظ الأمن.
كل من تعامل مع الأمريكيين على مختلف الصعد يمكن أن يدلي بشهادات غير منتهية عن جهل الأمريكيين، وقد اتضح ذلك جلياً في حدة الاستقطاب الحزبي وكيف يعتنق الأمريكيون نظرية المؤامرة إلى النخاع. يمكن أن نضرب مثلاً بكوفيد-19 وكيف تعاطى الكثيرون مع الوباء منذ بداية الجائحة، وموقفهم من التطعيمات، وكيف تقودهم فكرة موغلة في التآمر إلى اتخاذ قرارات مصيرية تخص حياتهم وأفراد أسرهم.
ومع ذلك، فإن جهل الدول العظمى يتحول إلى علم ينهل منه الضعفاء، وكسلها إلى حكمة، وتدليسها إلى سياسات تبرر لها فرض المصالح؛ فمكنة القوة قادرة على تزوير الحقائق والتعمية على البصائر وصناعة أمم تروج للكسل على أنه بعد نظر، وللجهل على أنه إحاطة بما وراء المعلومات المتداولة. هناك منطق في جهل أمريكا وكسلها، وهو منطق القوة سواء أكانت قوة السلاح أو قوة الاقتصاد، أو قوة الثقافة، فمنطق القوة يفرض نفسه. الشاعر العربي وصف سطوة الثروة بقوله:
فهي اللسان لمن أرد فصاحة
وهي الحسام لم أراد قتالا
ولذلك فإن ما تقوله أمريكا من معلومات كاذبة أو جاهلة أو منتقاة تتحول إلى حقائق لا تقبل التشكيك، وتتطوع جيوش من الإعلاميين في شرق العالم وغربه تروج لها، وتمررها على أنها الحق المبين، وإذا نشأ عن كسل الأمريكيين كوارث عسكرية أو اقتصادية أو أمنية فإن تلك الآلة جاهزة لتصويرها على أنها خطة للإيقاع بمنافسي أمريكا وأعدائها الإستراتيجيين، وأن المنتج الذي يراه العوام فشلاً ما هو في الحقيقة سوى خطة محكمة ستظهر مؤشرات بداعتها بعد حين، ويمكن ضرب مثل بأسلحة الدمار الشامل العراقية، والانسحاب من أفغانستان.
لا أعتقد أن دولة انتهكت حقوق الإنسان كما فعلت أمريكان سواء في داخلها أو على حدودها، أو في دول أخرى، والأمثلة ممتدة من فصل الأطفال عن ذويهم على الحدود، إلى العنصرية المتفشية داخل القطاعات الأمنية، إلى معتقل جوانتانامو، وصولاً لسجن أبو غريب، والسجون السرية. ولم ينتهك حرية التعبير بلد في العالم كما انتهكته أمريكا، والمثال الأبرز منع رئيسها السابق من حقه في التعبير على شبكات التواصل الاجتماعي.
العكس صحيح، فالدول الضعيفة لا منطق لأفعالها حتى وإن كانت المنطق بحد ذاته، فعلمها يتحول إلى جهل، وكسلها يتحول إلى فشل، وهي وإن ملكت كل الحقائق لا تعدو أن تكون دولا إما متهورة، أو مارقة. وقد سبق لشاع عربي آخر أن وصف هذه الحال بقوله:
يمشي الفقير وكل شيء ضده
والناس تغلق دونه أبوابها
حتى الكلاب إذا رأته مقبلا
نبحت عليه وكشرت أنيابها
وإذا رأت يوما غنيا مقبلا
خضعت إليه وحركت أذنابها
والمعنى أن أمريكا بكسلها وجهلها ستبقى صاحبة الكلمة الأكثر تأثيراً، والفعل الأكثر تدميراً، والمنطق الأكثر رواجاً، والسياسة الأكثر دهاءً. هكذا يقول منطق الأحداث وتؤكد نواميس الكون إلى أن يقدّر الله غير هذه الحال. وحتى ذلك الحين، فإن أحداً لا يستطيع أن يجهل على أمريكا رغم ما يعتريها من كسل وجهل.