د.أحمد بن عثمان التويجري
توفي فجر يوم الأربعاء الماضي الأديب والشاعر والإعلامي الكبير الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن إدريس -رحمه الله وتغمده بعفوه وكرمه وإحسانه. كان علماً من أعلام الفكر والأدب والشعر والثقافة في المملكة العربية السعودية بوجه خاص، والعالمين العربي والإسلامي بوجه عام. عرفته عن قرب أول مرة عندما زرته مطلع التسعينيات الهجرية في مكتبه في مجلة الدعوة في الرياض وكنت وقتها طالباً في جامعة الرياض (جامعة الملك سعود حالياً) لأوجه له دعوة لحضور أمسية ثقافية في الجامعة. أذهلني بلطفه وتواضعه، وحدثني طويلاً عن ما كان يربطه بوالدي -رحمه الله- من أواصر المحبة والمودة. ثم توطدت علاقتي به بعد أن عدت من البعثة للعمل أستاذًا في جامعة الملك سعود، ولطالما غمرني بأبوته وعطفه وكرمه ونبله، وما أعظم وأكثر تقصيري في حقه -رحمه الله.
كان الوجه المشرق لنجد في الفكر والثقافة والأدب، وعلمًا من أعلام المملكة ووجهائها الذين كم باهت بهم الأمم الأخرى، ولا أعرف من يوازيه من أنداده في المملكة في الجمع بين العلوم الشرعية والأدبية والملكة الشعرية وجمال الذوق ورقة الإحساس ورجاحة العقل والعفة والوقار -رحمه الله.
كان من أكثر من عرفت غيرة على الملة والأمة، يثور إذا تعرض أحدٌ للدين بسوء، ويتفاعل مع أفراح العرب والمسلمين وأتراحهم، وفي شعره ومقالاته شواهد كثيرة على ذلك. كان وطنياً من الطراز الرفيع، وكان قدوة في النزاهة والأمانة ونقاء اليد والوجدان. وكان أنموذجاً في التسامح وسعة الأفق وقبول الآخر، ولطالما شهدت في منزله العامر جميع أطياف المجتمع السعودي، وجميع أطياف الأدباء والشعراء والمثقفين العرب.
كان من تلاميذ العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة العربية السعودية المشهور -رحمه الله- بل من أقرب تلاميذه إليه. رشحه لرئاسة النادي الأدبي في المعهد العلمي في الرياض الذي كان أهم منبر فكري وثقافي في الرياض وربما في المملكة في ذلك الحين، وذلك بعد أن أقيل من رئاسته الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله، ثم رشحه لإدارة ورئاسة تحرير مجلة الدعوة عند تأسيسها فكان نعم الرئيس والرائد في الموقعين. كان سفير الأدباء والشعراء والمثقفين السعوديين عند مشايخ وعلماء الشريعة في المملكة لما كان يحظى به من ثقة لدى الجميع -رحمه الله. وكانت له صداقات وعلاقات وثيقة مع صفوة أدباء وشعراء العالم العربي من أمثال عباس محمود العقاد وطه حسين وأحمد حسن الزيات ومحمود مندور وعائشة عبدالرحمن وعمر أبو ريشة وبدوي الجبل ونازك الملائكة والجواهري والبياتي -رحمهم الله جميعًا. كان من جيل الكبار في المملكة من أمثال الشيخ حمد الجاسر والشيخ عبدالله بن خميس والشاعر حسين سرحان ومحمد حسن فقي وأحمد إبراهيم الغزاوي ومحمد حسن عواد وطاهر زمخشري وعزيز ضياء وأحمد عبدالغفور عطار -رحمهم الله جميعًا.
تولى خلال مسيرته الطويلة مسؤوليات ومناصب يصعب سردها كان من أهمها الأمين العام للمجلس الأعلى للعلوم والفنون والآداب، والأمين العام لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية والمدير العام للثقافة والنشر فيها وعضواً في مجلسها العلمي، كما كان من أهمها رئاسته للنادي الأدبي في الرياض على مدى اثنين وعشرين عامًا كانت من أزهى وأبهى سنوات النادي، ومما يذكر ويشكر له -رحمه الله- أنه أول رئيس نادٍ أدبي في المملكة يفتح مجال المشاركة النسائية في نشاطات الأندية الأدبية.
أصدر أعمالاً علمية وأدبية وشعرية كثيرة، من أهمها كتابه الشهير «شعراء نجد المعاصرون» الذي لا يزال حتى اليوم أهم مرجع علمي في مجاله، وكتابه «الشعر والشعراء خلال النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري»، وديوانه الشهير «في زورقي»، إلى جانب كتابيه في مجال النقد الأدبي «عزف أقلام» و»كلام في أحلى الكلام». نال وسام الريادة والميدالية الذهبية عن كتابه (شعراء نجد المعاصرون)، ومنحه الملك عبدالله بن عبدالعزيز وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى وكرم بصفته شخصية العام في مهرجان الجنادرية سنة 1431هـ، ونال ميدالية رواد المؤلفين السعوديين في معرض الرياض الدولي للكتاب 2006م، كما كرمته وزارة الثقافة والإعلام في المؤتمر الإعلامي الأول، وذلك لدوره الريادي في نهضة الصحافة والطباعة في المملكة العربية السعودية، ورشح لنيل جائزة الدولة التقديرية في الأدب في سنتها الثالثة 1405هـ والتي توقفت فيها.
في عام 1434هـ أقيم في الرياض حفل لتدشين كتاب «قافية الحياة» وهو السيرة الذاتية للفقيد -رحمه الله، وقد كان لي شرف المشاركة في ذلك الحفل وإلقاء كلمة وقصيدة جاء فيها:
أسعفْ فمي يا سيدي ليقولا
في يومِ قافيةِ الحياةِ جميلا
أسعف فمي أما الفؤادُ فإنّهُ
ثَمِلٌ بذكركَ لا يَمَلُّ شَمولا
أثخنتهُ بهواك يوم لقيتَه
فانظر إليهِ أما تراهُ قتيلا
يا ساكناً مُهَجَ الأنامِ ومشعلاً
فيها لأشجان الهوى قِنديلا
أسعف فماً ما حارَ حرفُ بيانِه
إلا وقد كان المقامُ جليلاً
يا سيدي والشعرُ أنت ضياؤهُ
ومعينُه لمّا يفيضُ أصيلا
من أي صرحٍ في حياتِك نبتدي
أو أيِّ دربٍ نستقلُّ سبيلا
وبأي نهرٍ من عطائِك يا ترى
نشفي قلوباً صَبةً وغليلا
أم أيِّ روضٍ من شمائِلك التي
عَبَقت بنبلكَ نستطيبُ مَقيلا
أبنجد يوم هتفتَ في شعرائِها
ولممتَ شملَهمُ وطبتَ دليلا
أم في فرائدِك التي أودعتَها
في زورقٍ وجعلتَها إكليلا
أم عزفِ أقلامٍ ملأت حروفَها
شَدواً يردَّدُ في الوجودِ هَديلا
أنا يا شجيَّ القلبِ مثلُك خافقي
صبٌّ تقلّبه الشجونُ عليلا
أشكو كما تشكو وأكتمُ لوعتي
وأئِن من زمنٍ أناخَ ثقيلا
وأرى المَصارعَ لا تفارق أمتي
تُردي الصّدوق وترفعُ الضّلّيلا
أهلُ الشهادةِ لم تعدْ راياتُهم
كالرّيحِ تعصف بكرةً وأصيلا
ومنائرُ الإشراقِ غابَ ضياؤُها
والحقُّ يا للحقِّ صار ذليلا
ياسيّدي وهواك يسكن في دمي
والشعرُ يقرع في الفؤادِ طبولا
أسعف فماً لم يرضَ في لهواتِه
عن قولِ ما يرضي الإلهَ بديلا
يكفيهِ فخراً أنه يا سيدي
حيّا كريماً في الرجالِ نبيلا
رحم الله الشيخ عبدالله بن إدريس رحمة واسعة وتغمده بعفوه وكرمه وإحسانه وأنزله منازل الصديقين والشهداء والصالحين، وجبر مصاب المملكة فيه، وأحسن عزاء أبنائه الكرام عبدالعزيز وإدريس وسعد وسامي وزياد وبقية عائلته وجميع أسرة الدريس، فبرحيله -رحمه الله- تطوى صفحة علم من أعلام المملكة ووجيه من وجهائها وأديب من أدباء الأمة الكبار، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.