يقول خير الدين الزركلي في مناجاة الوطن:
العين بعد فراقها الوطنا
لا ساكناً ألفت ولا سكنا
ريّانة بالدمع أقلقها
ألاّ تحس كرًى ولا وسنا
كانت تَرى في كل سانحةٍ
حُسناً وباتت لا ترى حَسَنا
والقلب لولا أنّهُ صعدت
أنكرته وشككت فيه أنا
يا طائراً غنى على غصن
والنيل يسقي ذلك الغصنا
أذكرتني ما لستَ ناسيه
ولربَّ ذكرى جدَّدت حَزَنا
إنَّ الغريب معذب أبداً
إن حلَّ لم ينعم وإن ظعنا
يقول الفيلسوف الغربي لامارتين: (الأبطال والشعراء من سلسلة واحدة وذلك لأن الأبطال يفعلون دائماً ما يتصوره الشعراء) وحري بكل فتى يحب وطنه ويحن إليه، إلاّ سُمي عند الناس بطلاً، وكما هيجت قصائد حب الوطن الناس في حنينهم لأوطانهم،
وأوقدت لواعجهم في الشوق إليها، واستنزفت ذكرياتهم من أجلها، استحق كل شاعر يحرك هذا الحس، ويوقد ذلك الإحساس، أن يُسمى بطلاً، ومن هنا حق لشاعر الوطن وشاعر الكلمة (خير الدين الزركلي) أن يُسمى بالشاعر البطل، فما حنينه لوطنه ومسقط رأسه إلاّ أهازيج شعرية تغنى بها الناس على مدى الأيام، وعزفوا بها على قيثارة حب الأوطان والشغف بها.
لبغداد والشام والقاهرة
وصنعاء والمغرب المؤنسِ
وبيد تهامة والحاضرة
ونجد ومن حلَّ في تونس
هوى دائم في ثنايا الحشا
وحب سقته النوى فارتوى
وصور الشاعر العربي القديم - ابن الرومي - حبَّ الوطن وقد عصف به الحنين فقال:
ولي وطن أليت ألا أبيعه
وألاّ أرى غيري له الدهر مالكا
عهِدتُ به شرخِ الشباب ونعمة
كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا
وحُبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكروا
عهود الصبا فيها فحنو لذلكا
فقد ألفته النفس حتى كأنها
لها جسدٌ أن بان غودر هالكا
هذا القصيد، وذلكم الشعر هو منفس المغتربين، ومتنفس العاشقين، وترياق المغنين، وبلسم الوالهين، وفيه فليتنافس المتنافسون.
وقد هام العربي الأول بالأوطان حباً، ودرج على ذلك منذ نعومة أظفاره، وذلك من حقب إثر حقب، فقد عُرف عنه فن الوقوف بالأطلال، وتذكر الديار والخلان، وهذا التغنّي بالأوطان مقصد من مقاصد القصيدة العربية القديمة الفصيحة، فأول غرض فيها هو الوقوف على الطلل، ووصف الراحلة والرحل، وأبدع الشعراء في هذا الغرض، وصمدت قصائد معلقات تبدأ بذكر الحبيب، والتغني بالوطن التليد، وفاقت قصائد الشعراء بعضاً بعضا، ونقشت سبع قصائد وقيل: عشر، وعلقت بأهداب الحياة على جدران الكعبة، وخلدت وكتب لها الخلود. وتربع الشعراء على عرش الطلل وبكوا وأبكوا، وحزنوا وأحزنوا، وذهلوا وأذهلوا، وما رائعة امرئ القيس عنا ببعيد، حيث استهلها بقوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
الوطن هو ذلك الصرح الذي تقلك أرضه، وتظلك سماؤه، ويعلك هواؤه، وحب الوطن من سلامة الفطرة، وكمال العقل، وطيب النفس والنَفَس، يقول الإمام الغزالي: (والبشر يألفون أرضهم على ما بها، ولو كانت قفراً متوحشاً، وحب الوطن غريزة متأصلة في النفوس تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب، ويدافع عنه إذا هوجم، ويغضب له إذا انتقص).
يقول أمير الشعراء أحمد شوقي في الوطن:
أياً وطني لقيتك بعد يأس
كأني قد لقيت بك الشبابا
وكل مسافر سيئوب يوماً
إذا رزق السلامة والإيابا
ومظاهر حب الوطن كثيرة، وصور التعبير عن هذا الحبّ جليّة، وما اليوم الوطني الذي ينتظره أفراد الشعب السعودي بشغف وتطلع في كل عام إلاّ مظهراً من مظاهر حب الوطن، والهيام به، لأنهم ولدوا على أرضه، وترعرعوا بين برديه، وشبوا على أثره، وهاموا بثراه وثرياه.
وتاريخ الأوطان لا يكتبه إلا شرفاء الناس، وهم من تولع بوطنه، وصدق في الصبابة إليه:
ما كنت أعلم أن العشق يا وطني
يوماً سيغدو مع الأيام إدمانا
في هذا اليوم سطر ويسطر السعوديون ملاحم شعرية في الفخر بالوطن، والترنّم بذكرى توحيده، والاحتفاء بسجايا ومروءة وبطولات راعيه ومؤسسه وبانيه المغفور له -بإذن الله - الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، هذا اليوم يصف حبَّ كل سعودي لأرضه ومملكته، ويشدو بذكرى توحيد كل من الحجاز ونجد وملحقاتها تحت اسم: (المملكة العربية السعودية)، فقط قطعت الدولة -عمرها الله- مراحل تاريخية معجزة حتى وصلت ليوم توحيدها الموافق لـِ (23 سبتمبر/ أيلول/ لـ1932م).
الوطن ما هو؟
* الوطن هو هوية الحياة، وأمنها وأمانها وأمانيها.
* فيه طمأنينة القلب، وسكينة الروح، وسعادة النفس.
* هو الدم النابض في عروقنا، والوهج الذي نستضيء به في حيرتنا.
* هو المقر السكن لأرواحنا فتعيش له وفيه.
* هو حاضر اليوم، وماضي الأمس، ومستقبل الغد.
* وطني: أنتَ تاريخ التضحيات التي رسمها لنا الآباء والأمهات من الخيرين والخيرات، والطيبين والطيبات.
* أنتَ موروث الحكمة، ورحيق الصبر، وتمثال الكفاح، وقبلة منقوشة على جبين التاريخ.
* وطني: لقد عشقتك حتى الثمالة، وحُرت فيك كلَّ الحَيرة، فماذا قال فيك الشاعر حين سُئلَ عنك؟
يا سائلاً عن موطني وبلادي
ومفتشاً عن موطن الأجداد
وطني به البيت الحرام وطيبة
وبه رسول الله خير منادي
وطني به الشرع المطهّر حاكم
بالحق ينهي ثورة الأحقاد
وطني عزيز فيه كل محبة
تعلو وتسمو فوق كل سواد
وطني يسير الخير في أرجائه
ويعم رغم براثن الحسّاد
قوم بغوا وتجبروا في أرضنا
ورموا بسهم الموت قلب بلادي
لكنه رغم المصائب هامة
تعلو بدعوة معشر العباد
مستمسكين بدينهم وتوجهوا
لله ذي الإكرام والأمجاد
أن يحفظ الشعب الكريم وأرضه
ويديمَ أمن الدين والأجساد
ويرد كيد الكائدين بنحرهم
ويعيد من ضلّوا لنهج الهادي
وطني:
عشقك أجمل عشق، وحبك أصفى حب، حسبي أن الحب فيك سام لا يفنى، وأن العشق فيك خالدٌ لا يبلى.
** **
- حنان بنت عبدالعزيز آل سيف
عنوان التواصل: hanan.alsaif@hotmail.com