د. تنيضب الفايدي
امتلكت أول ساعة يدوية عندما كنت بالصف الأول بمعاهد المعلمين الثانوي، وكان يطلق عليها ساعة (أم صليب)، وكانت أمنية وقد تحققت لأنني في المرحلة المتوسطة أرى الساعات على بعض معاصم زملائي وكانت من الأماني وقد تحققت، ولكنها بعد فترة قصيرة توقفت ويا فرحة ما تمت، وسلمتها إلى (مصلح الساعات) وقلت: أصلحها بحيث لا تخرب، فقال: لا بدّ أن تخرب ورزقي في خرابها، ورغم فارق السن حيث كنت في مرحلة الصبا، وهو يبدو أنه رجل ستيني، وأضاف أن رزقي في إصلاح الساعات وهو آخر عمل أقوم به، وبدأ يحدثني عن أعماله السابقة ولكنه فشل في كلّ (شغلانة) قد مارسها، دخل تجارة الأقمشة وفشل، وتأجير البيوت على الزوار وفشل، وعمل مزوّراً (أي: أن يقوم بترديد الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم ويردد بعده الزائرون) ولكنه اتهم بأنه يقول (كلمات شركية) وتركت هذا العمل، وأخيراً يقول: عملت عند بائع للساعات، وبعد فترة كاد أن يطردني ولكن الله لطف بي ولزمت هذا العمل، وعرفت أنواع الساعات، وكيفية إصلاحها، وأضاف قائلاً: إن إصلاح الساعات تعلمت منه كثيراً الصبر والدقة، وهو عمل شاق ومتعب، ولكنني أشعر بأن هذا العمل هو ما كتبه الله لي، وكلما أصلحت ساعة أشعر بفرحة... نعم إنه كما قال: يشعر بفرحة النجاح، لقد كانت مراحل فشله السابقة خطوات في الطريق الصحيح للنجاح، فعندما نتابع سير الفاشلين ولاسيما في الصناعات نجد بأنها خطوات أولية للنجاح لدرجة القول: إن الفشل هو الأصل في الاختراعات.
هذه القاعدة لا بدّ أن تكون أمام عيني كل شخص، فالفشل هو أصل النجاح، فلما تثق بهذه القاعدة تشعر بكثير من الارتياح والاطمئنان ويفارقك القلق والاضطراب وتجد الثقة الكبيرة إلى النفس.
يقول دايل كارنيجي: «أراني في موقف الناصح المجرب لكل من يضايقه القلق، فأقول: انطلق من أسوأ الظروف، ووطد العزم على تقبل أسوأ النتائج، وحينئذ تتحرر طاقاتك المكبوتة التي كان يشلها القلق، وتشعر بشيء من الحياة الجديدة يدب في جسدك وعقلك على السواء».
وقد سبق وليم جيمس أبو علم النفس الحديث بهذا الكلام حيث يقول: «إن التسليم بأمر حدث في الماضي نذكره فنمتعض منه، لهو الخطوة الأولى في التغلب على المصاعب التي تواجهنا في الوقت الحاضر، فليعد كل واحد منا نفسه لتقبل الحقيقة».
ثم يذكر دايل القصة لشخص تغلب على قلقه ومخاوفه عن هذه الطريق، حيث يقول: «ولما كان الرجل من طلبتي، فإني استميح العذر في إبقاء اسمه مكتوماً. قال: «إنني أعمل كرئيس لشركة تشتغل باستخراج النفط وتكريره وتسويقه، ونحن نسلم زبائننا طلبياتهم من الزيت في صهاريج تملكها الشركة، ويسوق شاحناتها موظفون عندنا. وقد ظل العمل يسير على هذا المنوال سنين عديدة، إلى أن اكتشفت يوماً أن السائقين يسرقون من كميات الزيت التي يوصي عليها العملاء ويبيعون ما يسرقونه لحسابهم الخاص. وحاولت أن أتلافى ذلك إلا أن جهودي ذهبت أدراج الرياح.
وفي أحد الأيام دلف إليّ في مكتبي رجل أنيق الملبس، تدل إشارته على أنه رجل يحترم نفسه. وقال الرجل: إن لديه البراهين القاطعة على أن سائقي الصهاريج في شركتنا يسرقون الزيت، وهو يعلم أن هذا مخالف للقانون، ولما كان هو مفتشاً مالياً في الحكومة، فإنه يعرض الاتفاق معي على مبلغ من المال لقاء عدم تحريك ساكن بصدد الموضوع: وفكرت: هل هذا ابتزاز لأموال الشركة تحت الضغط والتهديد؟ نعم. فهل من مصلحة الشركة أن تخضع له يا ترى!! سأرى.
إذا خضعت الشركة، فإن الرجل قد يطلب مبلغاً خيالياً، كما أنها ستضطر أن تدفع له كلما أراد، إذ إنها ستبقى خاضعة لتهديده.
وإذا رفضت الشركة فإن الأمر قد يفتضح، وتتناول الصحف مركز الشركة، وربما افحشت في القول عن غير تبصر ولا تقدير، فتأثر العملاء والزبائن ولحق بالشركة أضرار مادية ومعنوية معاً. هذا إلى أن القانون يجعل الشركة مسؤولة عن أعمال موظفيها.
وهكذا لم أصل مع ذات نفسي إلى قرار، فرجوت الرجل أن ينتظر أسبوعاً ريثما أبحث القضية مع مجلس إدارة الشركة، ووعدته باستقباله عند ذلك.
والحق أن قول الرجل أقلقني جداً، فقد شعرت بأن الشركة بكاملها تتزعزع أساساتها وتقف في مهب الريح. لكنني حين افترضت أن العمل بكامله قد ينهار، وتساءلت عما يمكن أن يصيبني من جراء ذلك أجبت: حينئذ يكون عليّ أن ألتحق بخدمة شركة أخرى.
وعند ذاك صفا ذهني، ووسعني أن أواجه الخطوة التالية: لماذا لا أعرض الأمر بكامله على محامي الشركة! وفعلت ذلك فنصحني المحامي أن أتصل بالنائب العام في الولاية وأشرح له الأمر.
والحق أنني أقدمت على هذه الخطوة وأنا في غاية الارتباك. لكن بشاشة الرجل ثم ما أبلغني إياه فرج كربي وأبقى للشركة أساساتها.
لقد قال: «إن هذا الرجل الذي يزيف صفة مفتش مالي هو محتال معروف تجد سلطات البوليس في أثره. فلا تخش شيئاً».
وانقضى الأسبوع.. ثم تبعه آخر، وثالث، ولكن «المفتش المالي المزور» لم يتفضل بزيارة المكتب. لقد عرف بطريقة ما أن لعبته لم تنطل عليّ، وأنه لا فائدة من زيارة ثانية، إلا إذا أراد أن يسلم نفسه لسلطات الأمن..».
ثم يضيف: «وقد علمتني هذه الحادثة درساً لن أنساه .. وهو: افرض أسوأ الظروف، ثم انطلق من هناك».