عبده الأسمري
منذ صرخة الميلاد وحتى شهقة الرحيل يعيش الإنسان في دروب بعضها يختصر في «بشرى» الخارطة وأخرى تطول وسط «فجائية» المتاهة مما يجعل النفس في «نضال» مع الأيام و«صراع» مع المواقف حتى تتجاوز «عقبات» الظروف وترضى بعواقب الأمور فكل مسار كان نتيجة «حتمية» لمراحل عمر تقتضي وتتوجب العيش وفق المعطيات وصولاً للعطايا التي تتهيأ في حالات من «الانتصار» أو «الخسران»..
تتحين أعين وآذان وجوارح الإنسان بفطرة جبلت على «المحاسن» أن ترى «الوجود» في أبهى صوره وأزهى ملامحه وأفضل هيئته مما يجعل «الجمال» ذائقة تسعى النفس البشرية إلى الحصول عليها أو المكوث فيها أو التعامل معها في كل الاتجاهات والأبعاد والآفاق..
نسمع كثيراً عن «الذوق العام» الذي يعتمد كثيراً على «الفطرة» السوية التي يولد الإنسان تحت ظلها ويعيش سنوات عمره خاضعاً لتربية عائلية وتنشئة أسرية ترسم له ضروريات «العيش» وتتيح له مكملات «التعايش» ثم تأتي «المدرسة» لتكون «الشريك» الحقيقي في تكوين معاني «الذائقة» البشرية التي تتخذ من العقل أداة للتحكيم ومن السلوك مجالا للحكم فتأتي «النتائج» في تباين قدري بين «التمكين» و«الضياع».
وفق منطلق «النظام» ومنطق «الصواب» وأسس «السواء» يأتي الذوق العام ليكون «عنواناً» عريضة لثقافة المجتمع و»أصلاً» ثابتاً لرقي البشر فهو الوسيلة الأولى التي تشكل «هوية» المجتمعات والغاية المثلى التي تبرز «قيمة» المنجزات لذا فإن «التنافس» الحقيقي بين مراتب الارتقاء والسمو والعلو يتعامد على «ذوق» الإنسان في محيطات تكتظ بالغير ووسط أحداث تنذر بالتغيير.
يرسم الذوق العام المعنى الحقيقي للشخصية التي تعرف «قيمة» الانتماء للمجتمع وتعي بمهمة العطاء للمستقبل.. وهو الأصل العميق لجوهر الإنسان ومعدن الشخص في الارتباط بأي فعل جميل والبعد كل البعد عن كل ما يشوه واجهة الحياة سواء من سلوك بالقول أو مسلك بالفعل.
تمسك الإنسان بالذوق العام يشيع روح «الاحترام» وينشر «بوح» التقدير وينثر «عبير» القيم ويرفع «مقدار» الإنسان ويعلي «مراتب» البشر ويسمو بالأفعال إلى مستوى «الرقي» وينأى بالأقوال عن فراغ «الحديث» مما يعكس الوجه الحقيقي لأي مجتمع الذي يرسم ملامحه الأفراد والجماعات في هيئاتهم وسلوكياتهم وإنتاجهم وتعاملاتهم..
عندما نتحدث عن «الذوق العام» فنحن أمام اختبار حقيقي للإنسان وابتلاء واقعي للتصرف الذي يمضي بالنفس إلى حصد «الارتياح» أو يقودها إلى هاوية «الارتباك» مما يفرق بين المتيمين بالاعتدال والمنساقين إلى الظلال.
وسط عالم متباعد الأطراف متباين التصرفات ومختلف العادات وثورة تقنية هبت رياحها على «ثوابت» عدة فكانت عواصفها بمثابة «الامتحان» وكانت نتائجها بمثوبة «العاقبة» وظلت أمواجها تضع الخاضعين لمد «التغير» وجزر التغيير في مواجهة محتدمة تحتم الالتزام بهوية يشكل فيها الذوق العام دهرين أحدهما للثبات الأصيل والآخر للتحول الحذر.
مخالفة الذوق العام تفسد وجه الحياة الجميل وتشوه الصورة المشرقة للحضارة في وقت يرى فيه البعض أن «التحضر» البائس في سلوكيات تخرج لنا «أجيالا» و«نماذج» و«أشكالا» غريبة نراها كشوائب في مجتمع يعتز بهويته ويفتخر بأصالته ويحترم تاريخه فنرى هيئات مخجلة تدعو للسخرية البعض يلوك مفردات غربية ينطقها بركاكة ولا يعرف حروفها ونوع يوشم سواعده بعبارات مريبة في تشوه خلقي مخجل وآخرون يلبسون ملابس تدعو للسخرية وكأنه جلبها من «مرامي النفايات» وهم لا يعلمون أنهم بذلك يخرجون من «جلباب» الأصالة ويتعدون على أسوار الهوية.. ويتورطون في «مشاهد» بائسة سيئة مؤذية للنظر ومعادية للجمال.
الشوارع والأماكن العامة وبيئات العمل والمواقع المختلفة التي تجمع البشر تعد «مجالاً» مفتوحاً يقضي فيه الإنسان وقتاً محتماً وينال منه نصيباً مفروضاً من خلال حاجات المعيشة واحتياجات الحياة لذا فإن الالتزام بالذوق العام في هذه الأماكن واجب على الجميع وقضاء الوقت في أفق خال من الأخطاء والتشوهات البصرية والعاهات السلوكية حق مكفول للكل تحت سلطة النظام ومسلمات الآدمية لذا فإن أي انتهاك لهذا الأفق الحياتي يشكل تجاوزا على الأنظمة وتعديا على الحريات المنظمة شرعاً والمكفولة نظاماً والموظفة قانوناً.
لذا فإن مخالفة الذوق العام وعدم الالتزام بأبجدياته وفرضياته وابعاده يعد «فساداً» خفياً يظهر في حالات وأحداث ومناسبات ويختفي ثم لا يلبث أن يعود وحين الاستمرار فيه فإنه سيتحول إلى «ظاهرة» فالواجب إخماده في مهده وبتر جذوره بعقوبات تظل في حيز «العبر» وتبقى في متن «الاعتبار» حتى يكون مجتمعنا نقياً من ترهات السفهاء وصافيا من سلوكيات الحمقى..