نَبْكي على الدّنْيا وَمَا مِنْ مَعْشَرٍ
جَمَعَتْهُمُ الدّنْيا.. فَلَمْ يَتَفَرّقُوا
الفراق والرحيل محتومٌ على كل بني الإنسان، طال بهم الزمن أو قصُر، وهذه سنة الله في خلقه - جل ذكره - وقال في محكم كتابه العزيز الحميد: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (سورة الأعراف آية 34).
ففي يوم الجمعة 24-2-1443هـ، فَقدت أسرة آل زهير غاليهم الحبيب راشد بن سليمان الزهير - رحمه الله -، فأُديت صلاة الميت عليه بعد صلاة المغرب في جامع الملك خالد بأم الحمام بالرياض، ثم حُمل إلى محافظة حريملاء، حيث ووريَ جثمانه هناك بمقبرة (مشرفة) بعد صلاة العشاء، في أجواء حزن وأسى. وكانت ولادته في حريملاء عام 1351هـ. وقد درس في إحدى مدارس الكتّاب لتعلم الكتابة والقراءة لدى المُعلم المقرئ محمد بن عبدالله الحرقان، حتى ختم القرآن الكريم تلاوة مع حفظ عدد من أجزائه، وعندما كبر وترعرع فكر في أي عمل يُعيشه ويغنيه، ولم يتيسر له ذلك لقلة الوظائف حوله..، فلم يرى بدّاً من الشخوص إلى المنطقة الشرقية لتوفر الوظائف في شركة أرامكو والمالية معاً، مُستحضراً قول القائل:
نقلْ رِكابَكَ عن ربْعٍ ظمئتَ به
إلى الجَنابِ الذي يَهمي بهِ المطَرُ
ثم ألفى على معالي الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن عدوان مدير المالية وممثل المملكة العربية السعودية لدى شركة أرامكو في ذلك الزمن، فالشيخ عبد الله بن عدوان بمنزلة الوالد لمن يؤمه بالدمام، طالباً للعمل في تلك المنطقة، منطقة منابع البترول المباركة، فهو - رحمه الله - يفرح بتوظيف أي راغب في العمل هناك، من أبناء المملكة..، وهذا بتشجيع من ولاة الأمور في إسعاد أبناء شعبهم - حفظهم المولى وأدام إسعادهم:
همُ الملوك وأبناء الملوك لهم
فضل على الناس في اللأواء والنّعَمِ
هذا، ولا يُنسى دور الشيخ حمد بن علي المبارك، رئيس المكتب الخاص للشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن عدوان، في متابعة وتفقد أحوال الوافدين من الشباب المغتربين القادمين من بلدانهم للعمل في الشركة، أو بأحد أقسام المالية..، وهذا لا يُستغرب على أمثالهم - رحمهم الله رحمة واسعة -:
لَعَمرُكَ ما الأَيامُ إِلّا مُعارَةٌ
فَما اِسطَعتَ مِن مَعروفِها فَتَزَوَّدِ
وبعد ذلك انتقل إلى الرياض، وعمل في رئاسة دار الإفتاء وكان محبوباً لدى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز وأصحاب الفضيلة المشايخ، لما يتمتع به من حيوية وخلق كريم، وإخلاص في أداء عمله، وظل مواصلاً عمله مدة طويله حتى أخلد للراحة متقاعدًا عام 1411هـ، تاركاً أثراً طيباً وذكراً حسناً، ثم رجع إلى مهوى رأسه حريملاء، وقد ترك باب منزله مفتوحاً لاستقبال من يؤمه من أفراد أسرته لكلا الجنسين، فيقوم بإكرامهم والترحيب بأطفالهم، ومنحهم ما يفرحهم ويؤنسهم، بل يرغب بتكرار زيارتهم له هم وأولادهم، فقد وهبه الله رحابة صدر وطيب معشرٍ مع الكبير والصغير، وكان - رحمه الله - كثير العبادة مُبكرًا لأداء الصلوات، وتلاوة القرآن الكريم، ومعروف مكانه في روضه المسجد المجاور لسكنه حتى كبر وضعفت قواه، ولقد سعُد في حياته ببناء مسجد راجياً من المولى مُضاعفة الأجر له ولوالديه، كما اشتهر بالجود والكرم، ولطافة الحديث، وبعض المداعبات الخفيفة التي تُؤنس السامعين، والحرص على صلة الرحم، فكان يسأل عن المريض من أقاربه وقريباته، رغم انشغاله بنفسه من شدة المرض إلى أن غاب عن الوجود.
ولنا معه ومع أبناء إخوته وأبناء عمه ذكريات جميلة باقية في طوايا النفس لا يمحوها ماحٍ مدى العمرِ..، حيث كان نخلهم المسمى (البطحاء) مجاوراً لنخل والدنا - رحمهم الله جميعاً رحمة واسعة -، وكنا نزاول السباحة في بركتهم..، ونتمارى في تسلق بعض فسائل النخل ثم ننحدر فوق عُسب النخل..، فنجد في ذلك أحلى المتع وألذّها، وكأننا أسرة واحدة في تآلفنا وتحاببنا، وفي بعض الأمسيات المقمرة نزاول بعض الألعاب المحببة إلينا معشر الصبيان..، ولكن هيهات رجوعها:
فَلَيسَت عَشِيّاتُ الحِمى بِرَواجِعٍ
عَلَيكَ وَلَكِن خَلِّ عَينَيكَ تَدمَعا
تغمد الله الفقيد بواسع رحمته، وألهم أبناء إخوته وأبناء أعمامه وأسرة آل زهير كافة، وعقيلته الوفية معه، ومحبيه الصبر والسلوان.
** **
عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف - حريملاء