خالد محمد الدوس
جعل الله سبحانه وتعالى هذه الدنيا بمغرياتها وشهواتها ومفاتنها وملذاتها دار فناء وزوال ولا تصفوا لأحد ولا تدوم على حال، ولا تبقى لأحد, كل حي فيها يموت وكل مخلوق فيها يفنى انطلاقاً من قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (الرحمن: 26-27) ويقول تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (يونس: 49).
لاريب أن أصعب ما يمكن ان يكون في هذه الحياة الدنيا أن تفارق من تحب دون أن تودعه, ودون أن تعلم بموعد رحيله..! وبالرغم من هذه الحقيقة الجلية إلا أن الإنسان يفجع، والعين تدمع, والقلب يحزن عندما تفقد أحد الاحباب والأقارب القريبين من القلب.
في مساء يوم الاحد الموافق 26-2-1443هـ تلقيت خبر وفاة النسيب الحبيب الاريب للقلب الأخ فهد بن عبدالعزيز الجبيلة بعد رحلة من المعاناة مع المرض تغمده الله بواسع رحمته. عرفت الفقيد الغالي (أبوثامر) منذ أكثر من 30 عاما بحكم رابط القربى من طرف شقيقي الاكبر فهد (نسيب الفقيد) وكان نعم الاخ ونعم الزميل ونعم القريب الملتزم بالقيم الاجتماعية الاصيلة والشيم التربوية الفضيلة. كان يتمتع بنقاء السريرة، وسلامة القلب.. متسامحا ومتصالحا مع الجميع لا يعرف لغة الكراهية والبغضاء والأحقاد, والكلام في غيبة الناس بل كان الصمت منهج حياته في المجالس لا يتحدث إلا ما يفيد ويسعد الحاضرين، ولا غرابة من ذلك فقد كانت تنشئته الاجتماعية منذ بواكير عمره قائمة على الاخلاق الفاضلة والمبادئ الحميدة فهو (خلاصة) تربية مثمرة من والدته الراحلة طرفة النجار, ووالده الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الجبيلة -رحمهما الله تعالى.
كان فقيدنا الغالي رجلاً جُبل على صفاء القلب والطيبة المتناهية والبشاشة العفوية.. يدخل المجالس بصمت وسكينة وهدوء ويخرج منها بذكر طيب وكلام حسن.. لأن مبدأه الايماني ورسوخه القيمي ينطلق من قول لقمان الحكيم (إذا تفاخر الناس في المجالس بحسن كلامهم فتفاخر أنت بحُسن صمتك) والصمت نصف الحكمة كما قيل, كان فقيدنا الغالي صاحب علاقات اجتماعية واسعة, ومحبوباً في عمله بالخطوط السعودية والكل كان يقدره -رحمه الله - لبشاشته وحسن تعامله واحترامه للصغير والكبير حتى مع المراجعين, كان يحب أن يخدم الآخرين من منطلق الأمانة الوظيفية, والمسؤولية العظيمة التي كان يرى أن حملها كان أثقل من الصخر..!!
عرف عن (أبوثامر) بّره بوالديه - رحمهما الله - فبعد وفاة والده قبل اكثر من عقدين من الزمن ظل ملازماً لوالدته -بحكم أنه كان الابن الأكبر - يقوم على شئونها ومتابعة اوضاعها الصحية, وكان مضرب مثل في لم شمل العائلة بعد أن حمل (لواء) المسئولية عقب رحيل والده رجل الكرم والشهامة والجود والنبل عند أهالي الرياض.
كان يقف مع اشقائه وشقيقاته موقف الأب الحاني البار ذي القلب الرحيم والخلق القويم.. فكان يحرص على صلة الرحم والاجتماع العائلي في بيت والدته -رحمها الله- وهذا لا مناص عمل مبارك.. وهل أسمى وأنبل وأشرف من بر الوالدين..!؟
في مرضه ضرب -رحمه الله- أروع معاني الصبر والاحتساب في معاناته فكان يردد ويذكر فضل الله سبحانه عليه حامداً وشاكراً لخالقه العظيم وبعد تردي أوضاعه الصحية في ظل معاناته المرضية لم يشتك بل كان يشكو بثه وحزنه إلى الله عز وجل، حتى ومع اشتداد مرضه كان يسأل عن الصلاة، فكان بالفعل يؤمن بأن الإيمان (نصفان) نصف شكر والنصف الآخر صبر.. ولعل ثباته وصبره على مرضه يؤكد عمق إيمانه وكثرة حمده لله والثناء عليه والشكر له عز وجل في كل حال, حتى ومع ارتفاع درجة حرارة مرضه ومعاناته الصحية الحالكة. فترك لنا دروساً عظيمة في حسن الظن بالله والثقة به، والإيمان التام أن المؤمن كل أمره خير كما قال الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام في حديث رواه الإمام مسلم: «عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ».
وعندما نزل عليه (الزائر الأخير) ملك الموت -عليه السلام- وهو على سرير المرض في غيبوبة صعدت روحه الطاهرة إلى ربها وقد تم تغسيله وتكفينه وهو رافع سبابته وما أجمله من حسن ختام للصالحين. رحم الله فقيدنا الغالي صاحب القلب الكبير (فهد الجبيلة) وأسكنه فسيح جناته وجعل ما أصابه من مرض وسقم تكفيراً للخطايا ورفعة في الدرجات تغمده الله بواسع رحمته.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.