لا أعرف صاحب هذه المقولة -العنوان- ولا أذكر أين قرأتها، قد تكون لزمة معرفية طبيعية، أو قناعة ترسخت عندي قارئًا قبل أن أكتب، وبعد ما كتبت.
لا شك أن القراءة ضرورة حياتية، ووسيلة أصيلة لتأصيل المعارف والعلوم، ولعل أجلى وأجمل جوانب ديننا الإسلامي الحنيف فيما يتعلّق بالعلم والتعلم، أن أول كلمة في كتاب الله العظيم كانت اقرأ وكانت أول التنزيل على النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، فالقراءة ضرورة قبل أن تكون وسيلة لبلوغ تلك الغايات الفكرية السامية، وطريقة للوصول إلى أساليب التمكن والتمكين المعرفي والعلمي على مستوى الأفراد والجماعات.
والكتابة أياً كان نوعها وموضوعها أو وسيلة حضورها هي في النهاية نتاج تلك القراءات التي تسبقها وتردفها لأنها -القراءة- حالة من جمع المعلومات وإعادة ضبطها ومعالجتها عند الكاتب وفق أفكاره وقدراته وتجاربه الحياتية والنوعية المختلفة، ثم تأتي بعد ذلك مهارات الكتابة المكتسبة وأساليبها، فبعضهم يسميها الحرفة الكتابية كونها صنعة إبداعية وأساليب مهارية تنضج وترشح مع تقادم الزمن، ويرتفع مستوى ألقها وجمالها بتعدد تجارب الكاتب وتنوّع موضوعاته وقراءاته وتعدد مناسباته التي تستدعي حضوره وتفاعله.
اليوم الكتابة لم تعد حصرًا ولا حكرًا على الحرس القديم الذين صبغوا الحياة الثقافية بتجاربهم الكتابية السابقة والتي أثرت تلك المرحلة بشكل عام وصبغتها بصبغة تقليدية، كثيرون يرونها أزهى عصور الكتابة الرصينة وفق مقتضيات عصرها ومتطلباته، والبعض يراها شيئًا من الماضي الجميل، كل ما تحتاجه اليوم أراشيف تحفظها، ورواة ومهتمون يعيدون بعثها من جديد في بعض المناسبات الثقافية أو الدراسات الأدبية والنقدية ذات العلاقة باللغة العربية وآدابها.
أما أدواء الكتابة فهي كثيرة ولعل أخطرها عندما يتوقف ذلك الكاتب عن القراءة فيصبح كحاطب الليل يتماهى مع المناسبات حضورًا كتابياً أجوف دون أن يكون له بصمة خاصة تجعله حاضرًا في وجدان القارئ ومخياله وللسجل الشرفي للكتّاب والكتابة، هؤلاء حاضرون في المشهد الكتابي مساحة على الورق لكن تأثيرهم يضل منعدمًا كونهم ينساقون وراء شهوة الحضور والالتزام الزمني الذي تفرضه عليهم تلك الوسائل والمنابر والمطبوعات، هولاء لا سمت لهم يجعلهم مميزين على مستوى جرس العبارة وقبل ذلك جودة الفكرة، ولا حتى مقتضيات الكتابة الأساسية التي تتطلب هيكلاً بنائياً يحفظ للفكرة الكتابية شكلها ورزانتها ومضامينها التي تجعلها حاضرة في ذهن المتلقي كونها مستوفية الحد الأدنى من شروط الإبداع الكتابي المعروفة والمتعارف عليها.
نعم، يظل هناك تفاوت في الصنعة الكتابية وغزارة الأفكار وحضورها في النصوص الإبداعية من كاتب لآخر ومن مبدع لمبدع، فالكبار كطه حسين في كتابه الشهير الأيام كان يُخاتل الفكرة قبل القارئ بضميره الغائب والحاضر في آن، وباللغة الرصينة والمتعالية أحيانًا، مما يجعل المتلقي البسيط يقف مشدوهًا بجزالة اللفظ وروعة السبك وتعالي أساليب التعبير، على الرغم من كون الأيام سيرة ذاتية بأسلوب روائي رفيع، إلا أن حجم ما فيها من أفكار ومعلومات تظل محدودة وليس فيها الكثير من تفاصيل الحكاية التقليدية المثيرة والتي تجسد سيرة حياة أديب كبير كطه حسين، قياسا بما يتماهى وينسجم مع حياة ذلك العلم الشهير، هذا إذا استثنينا حياته الأزهرية في تلك السيرة التي كان لها النصيب الأكبر في منظومة سرده تلك كونها تمثّل له مرحلة مرة قبل أن تكون مثيرة ظلت عالقة بذهنه ونتاجه حتى وفاته، في حين أن الأديب الكبير أحمد أمين في كتابه الشهير حياتي، وهو يحكي سيرته،كان أسلوبه في غاية البساطة والمباشرة، وكانت أفكاره تتجزأ إلى أفكار عديدة ومنعطفات كثيرة تجعلك تشعر أنك أمام سلسلة من الأحداث الإنسانية المترابطة زمانيًا والمترامية مكانيًا، مكتوبة بأسلوب سهل وميسر يعكس قرب هذا الكاتب منك ويجسد صدقه وبهاء سيرته ونقاء سريرته. ومع ذلك يظل نتاجهما علامة فارقة في أساليب الكتابة الإبداعية عمومًا وكتابة السيرة تحديداً وإن اختلفا في الأسلوب إلا أنه الاختلاف الذي يثري ولا يفقر ويزيد ولا ينقص من مقاييس الكتابة الإبداعية ومفاهيمها وصورها.
وعند العودة إلى واقع كثير من كتاب اليوم نجدهم كما قال طه حسين في معرض رده على سؤال يتعلق برأيه ووصيته لبعض الكتاب الشباب الذين عاصروه في آخر أيامه، فقال: - وصيتي لهم أن يقرأوا بمقدار ما يكتبون، وللمفارقة كان هذا في زمن ثراء ثقافي غير مسبوق، كانت مصر خلالها تضم صفوة الصفوة من الكتاب والأدباء والمبدعين، فما عساه يكون رأيه اليوم لو قرأ للسواد الأعظم من كتابنا وخاصة ممن تكشف التجربة وربما الصدفة أن بعضهم يستكتب غيره ليكتب له وخاصة في بعض الأعمال القصصية والروائية وربما المقالية الغزيرة في حضورها ومعلوماتها وتنوعها، التي يحاولون من خلالها ترصيع سيرهم الذاتية بها، ليقال عنهم أدباء ومفكرون، هؤلاء المزيفون يتطفلون على الكتابة ويتطاولون على الثقافة ورمزيتها ورموزها كونهم يتجاوزون المعايير الأخلاقية في الحضور على الساحة متسلحين بنتاج غيرهم وإن كان هذا النتاج في سواده الأعظم لا يرتقي ليقرأ فضلاً عن أن يصنف إبداعًا يُحتفى به ويُحفل .
** **
- علي المطوع
@alaseery2