مما يُلمس من محمد العلي عند الجلوس معه، هو أريحيّته العالية، وحسّ البهجة وعنفوان الحياة الذي لم ينضب مع كبر سنّه، وأيضًا دعابته، وضحكته المميزة التي يحفر إيقاعها عميقًا في ذاكرة من يقابله. ذلك ما يتبادر في ذهني عند الحديث عن شخصية العلي.
إلى أن حدث ذات يوم وأنا أتصفح مقالات محمد العلي المعنونة «كلمات مائية»، استوقفني عنوان «تجاعيد الروح»، فقرأته، وإذا به يعدد ما يسبب تجاعيد الروح، ويذكر «انعدام الفرح» أحدها.. الذي دعاني للتوقف، هو التعبير الواعي والنظري عن الفرح بوصفه رؤية للحياة، أي أن العلي ليس فرحًا فقط لكون ذلك مزاج شخصيته، إنما هو مؤمن بالفرح طريقًا للحياة.. فراودني التساؤل: هل يمكن للمثقف أن يكون فرحًا من حيث كونه مثقفًا..؟
هنالك صورة ذهنية تقرن العقل/الحقيقة/الثقافة/الوعي بالشقاء، كما يؤثّر عن المتنبي «ذو العقل يشقى في النعيم بعقله..»، ذلك أن العقل يحمل «هم الواقع» والواقع في نظر العقل غير كامل، لذلك يقتضي ممن يحمل راية العقل العيش بشقاء، يقول فريدريك لونوار: «إن الحقيقة هي معيار الفلسفة، فحتى في بحثه عن السعادة، سيفضل من يستعمل العقل دائمًا فكرة صحيحة، حتى لو جعلته بائسًا، على فكرة خاطئة ولو كانت مقبولة»، وفولتير يمثّل نموذجًا لهذا الموقف، حيث يقول فولتير: «لقد قلت لنفسي مئة مرة إنني سأصير سعيدًا لو كنت ببلاهة جارتي، ومع ذلك فإنني لا أرغب بسعادة كتلك «، في هذه العبارة يعتبر «هم الواقع»، وما يسايره من عقل وحقيقة، متعارضًا مع «هم الذات»، وما يسايره من فرح وسعادة، وبالطبع فإن فولتير منحاز لهمّ الواقع على حساب هم الذات.. وعند النظر في حيوات المثقفين وتاريخ الأفكار، نجد أنه لم يسُد موقف فولتير دائمًا..
فهنالك من يعطي الأولوية لـ»همّ الذات» على حساب الواقع، ومنهم الأبيقوريّون الذين أعطوا أولوية لسعادة الإنسان.. هؤلاء يصنعون ظروف سعادتهم بغض النظر عن الواقع.
وهنالك من يرى الاشتغال على هم الذات، يقود بالنهاية إلى الواقع، من قبيل طريق البوديساتفا البوذي، ففيه يلعب الخلاص الفردي المقدمة نحو الخلاص على مستوى الواقع، فبين الإنسان والواقع حجاب لا يمرّ إلا عبر الاشتغال على الذات..
وأخيرًا يأتي موقف الفصل بين همّ الذات، وهمّ الواقع.. ولعل سبينوزا من أبرز من يمثّلون هذا الموقف، حيث كان حاملاً لهمّ الواقع، فاشتغل بنقده، ولاقى اضطهادًا بسبب ذلك. وهو في الجهة الأخرى يبني صرحًا نظريًا يؤسس فيه لرؤيته عن السعادة والفرح..
والعلي أقرب لموقف اسبينوزا في الفصل بين الهمّين -مع حفظ الفارق بين الاثنين-، فكتابات العلي ترى الواقع مأساويًا.. إنما ذلك لم يمنعه عن الفرح، فهو يقول في مقاله «تجاعيد الروح» تحت فقرة «انعدام الفرح»:
«من طبائع الإنسان أن يحزن وأن يفرح وأن يرتاده القلق كما ترتاده النشوة... وحين ننظر إلى حقول نفس البشر، هذه الأيام، نراها قاعًا صفصفًا، إنها صحراء لا ينبت عليها عشب الفرح ولا أغصان البهجة، من دون الالتفات إلى أن ذلك ضد إنسانية الإنسان، ضد تكوينه».
إن العلي لم يبن صرحًا نظريًا يؤسس فيه للسعادة أو الفرح كما فعل اسبينوزا، لكنّه آمن بالفرح جزءًا جوهريًا في الإنسان، من دونه تنتفي الإنسانية.. والفرح هنا ليس مجرّد استجابة لأحداث الحياة الموجبة للفرح، بل هو مع ذلك، حالة انفتاح على الحياة، يتوسّم فيها الإنسان بوادر الجمال، ويجعلها تتفتح داخله حتى في المواضع التي لا ينتشر فيها الفرح.. فهذا هو محمد العلي الإنسان..
** **
- محمد سعيد