إلى كبيرنا الذي علمنا الشعر والفكر الأستاذ محمد العلي*
“نأت زرقةُ البحرِ” عنكَ
فماذا ستفعلُ من دون بحرٍ
وهذي الرمالُ
عليكَ
كما هبطَ الليلُ
من كلِّ صوبٍ تُهالُ
نأى عنكَ أسلافُكَ الباذرون وجوهَهُمُ
فوق أمواجهِ
حين مال بهم دهرهُمْ
مثل غصنٍ
فمالوا
وليس بشافٍ بكاؤكَ
ليس بمجدٍ نداؤكَ
إذ رحتَ تندبهم واحدًا واحدًا
كي يعودوا:
تعالوا!
ضبابٌ يحيط بك الآن من كل صوبٍ
و»لا ماءَ في الماءِ»
لا كأسَ في الكأسِ
والبئرُ تلك التي كنتَ تروي حروفك منها
غدتْ أثرًا بعد عينْ
والنوارسُ -حتى النوارسَ-
تلك التي كنتَ تذخرها للملمَّاتِ، خانتْ
زرقةَ البحرِ
ما عدتَ تسمعُ من ريشها المتقاطرِ لحنًا
كأنك ما كنتَ أنتَ ولا هي كانتْ
سوى حلمٍ عابرٍ
بتَّ تنفضُ منه اليدينْ
نأت زرقةٌ علّمتك الأناشيدَ
والسِيفُ ينأى
وما ثمَّ غيمٌ يلوحُ
(سوى ما بدا في خيالك)
فالأرضُ مثل شرايين قلبك ظمأى
وما عاد يجدي سؤالك:
كيف؟ لماذا؟ وأنّى؟ وأينْ؟
نأتْ زرقةُ البحر ِعنك
فماذا ستفعلُ
من دون بحرِ؟
تشاطرتما الجهلَ والحيرةَ الأبديةَ
لا زرقةُ البحرِ عارفةٌ بالمآلِ الذي تذهبانِ إليهِ
ولا أنتَ تدري!
كنتَ تكتبُ شعرًا
وتنشده للنوارسِ
للبحرِ
للفتياتِ الحيياتِ في الفجرِ
للفاطماتِ يغنين «يا دانه دانه»
للمطرِ المتهاطل فوق الشجرْ
كنتَ تسهرُ وحدكَ
حتى تزورَ طيوفُ النعاسِ
جفونَ القمرْ
كنتَ تتبع مجرى النهرْ
وتسبقه للمصبِّ
وما كان يقبلُ إلاك ندًا له
إذ تفيءُ عليه بظلك
تحنو على عشبه وحجارته المسكنةِ في قعرهِ
ثم تتلو على سمعه ما تيسّرَ من غزلٍ
مثل وحي تنزّلْ
من أعالي سماء القصيدةِ
يا سيدي، فأجبني إذا ما سألتك،
لكن بصوتك:
«آهٍ متى تتغزل؟»
... ... ... ... ...
*المقاطع بين علامتي تنصيص هي من قصائد مختلفة للأستاذ العلي، كما أن هناك إشارات متفرقة لمواضع من قصائده لا تخفى على العارف بشعره.
** **
- عبدالوهاب أبو زيد