الاقتراب من تجربة أستاذنا الكبير محمد العلي الشعرية ناهيك عنها الفكرية هو اقتراب نقدي وإبداعي محفوف بالرهبة والإجلال.. والتقدير.
ربما أكون بمستطيع أكثر وبثقة أعلى حين اقترب من بنيته الفكرية وطروحاتها وشذراتها وإيجازاته التأملية حتى اللحظة لأني أعرفها وتربى جيلنا عليها.. أيدلوجياً وسياسياً وأستطيع تأملها ومحاورتها والاختلاف معها أحياناً والخروج عليها لأني تجاوزت مدرستها وسياقها التاريخي والزمني، لكن عند الاقتراب من شعريته أجدني أقف مرتعداً أمامه كشاعر خطير مهم ومقل، له جبروته اللغوي والدلالي، والجمالي وتكثيفات صوره الفنية، وله مجازاته ورؤياه واستبصاراته الفكرية، بل له حظوة تأسيسية للمعنى الحداثي الإبداعي في مشهدنا الشعري، فهو الشاعر الذي بتأثير القليل القليل من قوله الشعري المكثّف أسس بروحية تجديدية بصيرة كيانًا متماسكاً من الشعرية في تجربتنا الشعرية السعودية الحديثة.. بل أكاد أقول بغير ما تجاوز أو تعد أو إطناب في الحكم، أن القول الشعري كله الذي أنتج بعد قصيدته في تجربتنا الشعرية: (لا ماء في الماء) القصيدة الأم اغترف من ينبوعها وتدفقاتها وجريانها في شرايين الجسد الشعري المعاصر.. واتكأت على مقترحاتها الجمالية والتشكيلية الأولى.
يكفي أن تقرأ قصيدته العلامة هذه لكي تقف على هذه الانثيالات اللغوية-الفكرية في لوحتها التشكيلية الجمالية الهائلة ولكي نتلمس البذرة الحداثية الأولى التي غرسها في تربة تجربتنا الشعرية المعاصرة في السعودية.. وفتحت له أفقاً جمالياً جديداً.
بمعنى أنه اكتفى أن يستنبت مشروعه الجمالي الشعري التأسيسي في حقول وجسوم شعرية متقاربة وتجارب متحلقة تشاركت معاً في تحديد قسمات الحالة الشعرية الجديدة.
عشنا مع محمد العلي شاعراً مجيدًا مقلاً وناقداً رائياً شحيحاً في متابعته وتفاعله، ومفكرًا خصباً متابعاً للحركة الفكرية المعاصرة أكثر منه حضوراً وكتابة في نثرياته وكنا نتمنى أن يطور تفكيره النقدي في النصوص الإبداعية التي واكبت تأثيره به وبمنجزه الإبداعي إلاّ أنه إنحاز إلى ذاكرته التراثية الفذة ومتابعته الفكرية ليمثل حضوره الدائم قيمة ثقافية مضافة.
كنا ننتظر العلي أن يتابع الحركة الإبداعية المحلية ونقدها تصويباً وتحليلاً وتنظيراً وهو المحسوب إلى شعريته الباذخة وعمق نقديته الجذرية وتأملاته في واقع الحراك الإبداعي والاجتماعي لكني أجدني حسبه الارتكان إلى ذاكرته التراثية الفكرية وقراءته المتفاعلة واستيعابه للفكر القديم والمعاصر ومقارباته المعاصرة في أبعادها الاجتماعية والسياسية كي تشكل لنا مرجعية أخرى نستمد منها ديمومة روح التغيير المتقدة التي عاش من أجل تحققها استمرارها.
قصيدة: لا ماء في الماء!
- محمد العلي
ما الذي سوف يبقى
إذا رحت أنزع عنك الأساطير
أرمي المحار الذي في الخيال إلى الوحل؟
ماذا سأصنع بالأرق العذب
ماذا سأصنع بالأرق العذب
بالجارحات الأنيقات
أما لقيتك دون الضباب الجميل
كما أنت.. كن لي كما أنت
معتكراً غارقاً في السفوح البعيدة
مختلطاً بالثمار
ومكتئباً كالعيون الوحيدة
بيني وبينك هذا الضباب
الذي يمنح الحلم أشواقه
يمنح الوهم أجنحة الماء
ها أنت فيه غوي
كنافورة من نخيل
كأرجوحة من هديل.
يقولون كنت هنا منذ أول فجر
وآباؤنا بذروا فيك أحلامهم
بذورنا - ولما نزل في الأماني - على الموج
وكنا حقول الهوى فوق زرقتك البكر
كنا الزغاريد تشعلها الفاطمات إذا ما أطلوا مع السحب
(دانه.. دانه.. لا.. دانه).
ها نحن جئنا
ولسنا نريد اللآلئ
لسنا نريد الذي لم يزل نازحًا في امتدادك
إنا نريد الوجوه التي كان آباؤنا يبذرون على الموج,
أسماءنا
أن نسير على الأرض دون انحناء...
وها أنت كالحزن تنداح
تنداح دون انتهاء..
وبيني وبينك هذا الضباب الجميل
- ترمدت الشهب الحُلميّة
يلبس عري الصخور هو الآن
لا ماء في الماء
أوقفني مرة نورس كان في البعد
أسمع من ريشه المتقاطر لحنًا
وأخيلة تغسل الموت من كل أوهامنا المشرئبة بالخوف
لكنه ذاب في الملح..
أعدو قرونًا على السيف
أسأل كل الشموس التي اختبأت فيه
كل الحرارات
كل الرياح, المرايا, المراكب
سرت إلى أين
يا زرقة علمتنا الأناشيد?!
كان الأصيل شهبا كنهدين ما التفتا بعد
خامرني غزلٌ مثقفٌ بالعصافير
لكنها لم تجئ
زرقة علمتنا الأناشيد
أطفأت قلبي
- جميل سهاد المحبين
حين يكون الظلام خليجًا
وتأوي إلى الأرض أنهارها..
ثم ينأى الخليج الذي يحمل القلب,
ينأى إلى حيث يبقي الضباب: الحداء - الدليل..
هناك أقتل هذا الكمين المخاتل، أو ما يسمونه:
شعراً، وأرقص.. أرقص والكأس، والذكريات الحييات..
عن أمس, أو عن غدٍ سوف يأتي
وبيني وبينك هذا الضباب الجميل
....
تنبثق القصيدة ككيان شعري تأسيسي ليس من ذاتها الشاعرة المبدعة المحضة بل من عالمها الواقعي المضطرب وتاريخها وأساطيرها لتعرح ثانية نحو ذاتيتها لترسم في لوحة الكلمات واقعاً آخر مهموم بمصائر كلية.. وبأحلام غضة بكر كما تريدها الذات الشاعرة.
ترسم قصيدة العلي خطوطاً مائية متعددة المسارات كخطوط ماء المطر المنسربة برائحتها في أعماق الأرض وهو الذي كان يرسم كلماته المائية في فضاء كتاباته المتعددة.. يعرف واثقاً من أثرها الواضح بعد انمحائها الظاهري..كأنها بالفعل تصبح قول على قول، والقول هنا بنغمس في غموضه كالحلم المتواري خلف ضبابٍ شفيف.. وشاعرنا هنا لا يفترق كثيراً في قوله الفكري النثري الذي ارتكن عليه في آونته عن قوله الشعري السابق عليه.
إنه يشكل قصيدته/ اللوحة بخطوط مائية قزحية تندغم فيها كل ألوان الحياة والطبيعة.
وهذه طبيعته الإبداعية والفكرية فيما ألمح طيلة مسيرته الممتدة.. إنه المشّاء في دروب المعنى ومسارب الرؤى الفكرية كما قلت عنه في مقال سابق أنه المشاء في فكره السقراطي لا يعبأ إلاّ برمي حجارة أفكاره هنا وهناك، ديدنه تحريض العقل وتحريك الوجدان، لا يتحقق حضوره إلا في الأثر الذي يتركه ويطبع بميسمه أفق التحول وصيرورة التجدّد الإبداعي.
مضيفاً أيضًا إنه الإفلاطوني في إبداعه له جمهوريته الفكرية الخاصة وارخبيلاته الشعرية التي لا يقترب منها غير المهموم بكيانية القول وتجذيرية الرؤية والرؤى.
هذا شاعر كياني له استقصاءاته الفكرية الممتدة من إبداعيته في غير ما انفصال.
وفي قصيدته الواحدة المتعددة يُختزل القولان كما يطيب له أن يقول في بعض محطاته: (فيها قولان).. القول الفكري تضميناً جوهرياً معاداً تشكيله في مضامين ولغة شعرية مقتصدة.
عندما أحدد أن هذه القصيدة كيانية وتأسيسية بامتياز فقد عنيت أنها لم تترك القول في ذاتيته الشاعرة الشجرية، بل تفرعت غصونها في أشجارٍ من ليل المعنى امتدت بظلالها على نهارات اللامعنى المتصحرة في لحظة تاريخة جامدة مراوحة بين الصمت واللثغة الأولى.. بين الصحو والضبابية الشفيفة..
(بيني وبينك هذا الضباب الشفيف)
بينه وبين البوح
بينه وبين الحلم
بينه وبين الصحو
جدار من ضباب لا ماء فيه.
ما أجمل هذه الغنائية الشجية..!
تتكرر هذه الجملة لتؤكد كإيقاع كلي للقصيدة على أن القول الشعري يقتحم الحجب ليؤكد على الوضوح المتواري للمعنى خلف الغموض وللشاعر كما أذكر محاضرة أبدع فيها تحليلاً وتشخيصاً بعنوان (الغموض الشعري) كتبها في ثمانينات القرن الماضي وكانت واحدة من بصائره الفكرية المتسربلة شعراً، شاغبته فيها بمقال عنوانه: (ما لم تقله المحاضرة)، حين كنت مثقلاً بدغمائية الفكر ومراهقته، وعندما لم أكن متلمساً في محاضرته تلك تماثلاً لفكرتي عن مفهوم الشعر ووظائفه.
وفي حوارٍ أخير له في المجلة العربية يشير العلي إلى أن ثمة غموضًا مصدره المعنى: «المعنى أحياناً يكون مثل اللؤلؤة الساقطة في الماء، فعندما يقع شيء في الماء وتنظر إليه فأنت تأتيه من زاوية أخرى غير زاويته الحقيقية في الماء». وثمة غموض إبهامي يأتي من الألفاظ واللغو الذي لا يؤدي إلى شيء، وهذا على حد قوله نتيجة لعجز الشاعر ولعلني أقول أيضاً إلى اختلال مفهوم الشعرية لدى من يكتب الشعر الآن أو استسهالاً لكتابته، وضحالة ثقافة الشاعر.
إلاّ أننا نلمح في قصيدته ذلك الغموض الشفيف حين يقول ولا يقول في آن:
(ها نحن جئنا
ولسنا نريد اللآلئ
لسنا نريد الذي لم يزل نازحًا في امتدادك
إنا نريد الوجوه التي كان آباؤنا يبذرون على الموج)
كأني به يتصادى مع قصيدة السياب «أنشودة المطر» في صرخته على ضفاف الخليج:
(أصيح بالخليج (يا خليج
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى)
فيرجع الصدى
كأنه النشيج
يا واهب المحار والردى)
ذات الردى وذات الغياب الممض الذي كان يأخذ وجوه آبائنا البكر مبذورين على سطح موجاته الساكنة..
شاعرنا في حزنه الشفيف هذا يطيح باللؤلؤ كرمزية للغنى والرفاه من أجل رمزية أكثر غنى بالماء والزرقة.. هي رمزية الوجوه الأولى/ الهوية البكر التي غابت بأحلامها وانكساراتها والتي لا تنحني هاماتها على الأرض تشرئب نحو الضباب الشفيف متوارياً وراءه غد نورسي تتقاطر من أجنحته ألحان الخلود.. إذ تبدو لي هنا رمزية الضباب الشفيف دالة على الماء ذاته.. الماء الذي يصبح لا ماء فيه حين يلبس عري الصخور أو يتساقط عليه كأنثى من ماء، مانحة للوهم الجميل أجنحتها الشفيفة..أجنحة الماء.
في هذه القصيدة الاستثناء في تجربة العلي تتبدى لنا حالة قلق فكري عميق على الهوية البكر لإنسان الخليج.. هوية آخذة في التمزّق والانمحاء في حيثيات التحوّل الكليّ واللحظوي من: (زرقة علمتنا الأناشيد)، إلى (أخيلة تغسل الموت من كل أوهامنا المشرئبة بالخوف).. فينطفئ القلب، وحين يصبح الظلام خليجاً ممتداً ساجياً:
(ينأى إلى حيث يبقي الضباب) ملاذاً لا ماء فيه، متأملاً الشاعر إلى الأفق حيث في (غدٍ سوف يأتي
وبيني وبينك هذا الضباب الجميل).
** **
- د. أحمد بوقري