(خطة عمل): بهذا العنوان الجانبي (خطة) يضع العلي في ذهنه الكتابي بأن الفزع الذي يجب أن تمتلئ به هو “ ألا تقدم للقارئ فائدة ما “ هذا الهاجس والذي بدأ به العلي كتابه (هموم الضوء) الذي جمعه الشاعر والمترجم أحمد العلي. حينما ذكرت في العنوان العلي قارئا للحضارات الشرقية فأعني به ملحمة (قصة الحضارة) لويل ديور انت الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي الذي أنفق عمره كتابة لهذا السفر الجليل والذي لم يكتمل في حياته وأكملته عنه زوجته وهما قطعا العالم غربا وشرقا وشمالا وجنوبا لكي تكتمل السردية الفلسفية التي سيوثقونها 48 للأجيال اللاحقة ولا يخفى عليك أن من يقرأ مثل هذا السفر الجليل الواقع في مجلدا إنه قارئ لا يمكن الاستهانة به كيف لا حين يكون مفكرا بحجم محمد العلي الذي قلت عنه سابقا أنه يستخدم شخصياته المفهومية داخل قراءته للأفكار مختبأ في ظلالها ناقدا لها. يقول العلي أن الكتاب الضخم قصة الحضارة كان معه منذ سنين طويلة “ إنه متربع بكبرياء مخيف على رف كامل المكتبة ولكني لم أقرأ منه إلا عدة صفحات متفرقة وكلما اندفعت إليه ضحك الوقت علي وضحكت المحطات الفضائية وضحكت أنا علي “. راجع هموم الضوء ص 56
ولا يخفي أن مثل هذا الكلام من قبل العلي يستبطن المفارقة كما أنه يستظهرها فقارئ مثله لا يمكن أن يقدم على القراءة من دون أن يستخدم عتاده المفهومي إزاء ملحمة الحضارة ندا إلى ند كما في الملاحم التاريخية كالإلياذة وأبطالها لكن هنا على شكل شخصيات مفهومية يطوعها العلي لقراءته. لأنه يكمل حديثه بعد هذه المفارقة ليقول “ هذا الكلام كله تمهيدا لأقول لك: سأقرأ هذا الكتاب وأضع بين يديك ما أراه ضروريا لمعرفة أهم خطوات الحضارة فهل تقبل؟! إن قبولك هو الذي يجعلني (ملتزما) بقراءة هذا الكتاب الجليل “ راجع نفس الكتاب ص56 جزء في آخر 48 لا حظوا هنا استخدام وسم الكتاب على ملحمة مكونة من طبعاتها لكنه كان موضوعيا تجاهها لأن الأجزاء بفيسيفساءها كاملة تنتظم في عنوان واحد (قصة الحضارة) كقصيدة شعرية عن الإنسان عبر عصوره المختلفة وأطوار تكونه من الطفولة حتى نضجه الحضاري.
وهنا يضع العلي ترسيمته المفهومية قائلاً: ولكن قبل الدخول فيه ، هل يحتاج المرء إلى طرح التساؤل: ماهي الحضارة؟ ليرد بمفارقة أخرى: “ لا أظن ذلك فمفهوم الحضارة أصبح واضحا لكل ذي عينين وأذنين “ ويستشهد مسترسلا بالموسوعة العالمية بأن “ الحضارة طريقة حياة بعد أن بدأ الناس يعيشون في مدن أو مجتمعات نظمت على شكل دول المجتمع “ راجع نفس الكتاب ص ?? ، يتبنى العلي مقولة الوصل بين الحضارات وهو ضد الذهنية التجزيئية التي في حالة اشتباكها بالظواهر تدرسها وكأنها ظواهر منعزلة عن محيطها التاريخي كما يصفها بأنها «داء ذهني فاضح» أصيب به الإنسان الغربي المسكون بوهم التفوق العرقي. يقول العلي مستشهدا بويل ديورانت من المقدمة “ إن قصتنا تبدأ بالشرق لا لأن آسيا كانت مسرحا لأقدم مدينة معروفة لنا فحسب بل كذلك تلك المدنيات كونت البطانة والأساس للثقافة اليونانية والرومانية التي ظن خطأ أنها المصدر الوحيد الذي استقر من العلم الحديث”
ول ديورانت من أهم المصادر حول أصل التفلسف أيضا بالتالي مقولات الوصل بين الحضارات تستمد راهنيتها من هذا السفر مع غيره ويضيف العلي من خلال ول يدورانت «إن المستقبل يولي شطر المحيط الهادئ فلابد للعقل أن يتبع خطاه هناك» ثم ينقض العلي بسؤال المفارقة كما هو معهود «أرايت؟!» العلي وول ديورانت يرون أن الشرق ومصر ليسوا فقط أساس الحضارة بل مستقبل الحضارة يمكن هناك أيضا. راجع نفس الكتاب ص 59 .
أولا بداية الحضارة
الحضارة تتألف من عدة عناصر كالتالي: (موارد اقتصادية /نظم سياسية / تقاليد /فنون آداب) وهي تبدأ حين ينتهي الإضطراب والقلق لأن الإنسان إذا أمن الخوف تحررت من نفسه دوافع التطامع وعوامل الإبداع والإنشاء، مؤكد أن التحرر من الخوف هو أول شرط من شروط ولادة الحضارة كلها وشرط استمرارها ونموها.
والعلي يقيس بدء الحضارة ببداية الكلام والصيد والزراعة هذه القراءة التدرجية التي مشى عليها التقليد الأنثروبوجي والفلسفي من روسو وحتى جاك قودي ودريدا. يعني الصيد / الكلام / الزراعة الكتابة ويذكر العلي المفارقة المهمة حول الكلام “ وحيدا فريدا هل تتخيل كم المسافة الزمنية التي قضاها الإنسان حتى وصل إليه وراح يبني اللغة مفردة مفردة”. راجع نفس الكتاب 61 والعلي يؤكد تبصرات جان جاك روسو بأن أول مرحلة بدأت في تطور اللغة عند الإنسان من المرحلة الحيوانية إلى الإنسانية أول مفردة بدأ في نطقها كانت كلمة (آه).
والعلي يقول إن تطور اللغة مر بآلاف السنين بحيث أن المفردة لا تتراكم إلا بفعل التذكر مضافاً إلى التواطى متسائلاً عن الشروط الترانسدنتالية لتكون اللغة. ويعرج العلي إلى سرديات بداية الإنسان المختلف عليها هل هو من الحبشة واستقر في الشرق الأوسط وفي أوروبا والأمريكيتين التي تتداول كثيراً من قبل الباحثين في الأنثربولجيا التطورية. راجع نفس الكتاب ص 62
الخطوة الأولى للحضارة في رأي العلي كانت بناء اللغة وهي قفزة هائلة كما يصفها ولخطوة الثانية كانت الزراعة وهو يؤكد أن للأمومة دوراً مهماً في القفزة الحضارية الثانية واكتشاف الزراعة. أما بداية التاريخ فقد بدأت من الكتابة قبل خمسة آلاف سنة تقريبا وهذه القفزة الثانية التي يراها محمد العلي، حيث الفرق بين الخطوة الثالثة والثانية أربعة آلاف سنة تقريبا لكن الفرق بين الخطوة الأولى والثالثة شاسع جدا.
اكتشاف النار
بدأ الإنسان اكتشاف حضارته من اكتشافه للصيد واستئناس الحيوان وبعد أن اكتشفت المرأة الطريق للزراعة قفز الإنسان قفزات هائلة جداً في طريق الحضارة وامتدت هذه الخطوة إلى خطوة أعلى منها وهي الصناعية أعني الصناعات اليدوية والحرفية والعلي هنا يستشهد بديورانت بأن النار هي أولى طريق السلم الأعلى للحضارة، حيث بدأت من الكلام ثم الصيد ثم المدنية الزراعية ثم اكتشاف النار لتكون الحضارة أوثق تجليا من خلال صدفة النار التي لم يخترعها الإنسان، بل الطبيعة كشفت له عنها من خلال الظواهر الطبيعية واحتكاك أوراق الشجر ببعضها وبوميض البرق ولم يتجاوز فيها الإنسان مرحلة محاكاته للطبيعة. راجع نفس الكتاب ص 68-69 .
اكتشاف السببية
في المرحلة الأرواحية التي جعل فيها الإنسان مظاهر الطبيعة في مكانة المعجزة والميثولوجيا كانت النار تحتل تلك المكانة الميثولوجية لكنها ولدت معها أيضاً أهم مصدر من مصادر التفلسف عند الإنسان ألا وهو عامل السببية وإن كان بدائيا يقول العلي “ النار كانت أهم سلاح استخدمه الإنسان في صراعه الأول مع الظلام ومع البرد ومع قسوة اللحم النيء ومع صهر الحديد ومع الوصول للمنافع الأخرى”راجع نفس الكتاب ص 69 .
** **
- عبدالله الهميلي