د. شاهر النهاري
أحدهم أرسل لي مستنداً يحتوي على كومة سطور، وطلب رأيي في قصته القصيرة!
سعدت بذلك، فأنا من عشاق القصة القصيرة، ولي مع التذوق الفني محطات تمتع بخيوط الإبداع في الفكر والأدب والخيال والجمال.
تلمست النص، متأملا بأن أعانق الأدب، والبديع، وأغوص في بحار اللغة ألتقط الصيد الكريم من الدرر.
ولكني حقيقة لم أشعر بذلك بعد عدة سطور، شبيهة بالمقال الخبري، بلغة بعيدة عن الأصالة والجمالية والفن الأدبي، مجرد سرد، قد يكون لأي شيء إلا أن يكون ضمن قصة قصيرة.
عندما يكون أمام المبدع في الأدب مستند فارغ، فهذا هو الفضاء الرحب يناديه للتحليق وسطه، يشرح جناحيه وشاعريته، ويكتب أحاسيسه وعين قلبه، وقدرته على رسم الصور المدهشة، بشكل خاص عميق مؤثر، وأن يجمع زوايا قصته القصيرة من كلمات وجمل ذات معنى، لا فراغات بينها، ولا حشو ولا استطالة، تمكن القارئ من إدراك ضمني بأنه أمام قصة قصيرة، وأنها ليست جزءاً مقتطعاً من رواية.
كاتب القصة القصيرة العاشق لفنونها، والعارف بحدودها ومغازيها وجمالياتها أشبه بصانع الحلي في معمل مجوهرات، وبين يديه كل الأدوات، والمواد، والهواية والتميز والخلق، والقدرة على صنع عقد جواهر، فريد بصنعته، قوي بمتنه، محكم بتداخل ألوانه ورموزه، لدرجات نشعر معها أنه لو حرك جوهرة صغيرة عن مكانها، لحدث الخلل، وعدم التكامل بين العمق والظاهر.
القصة القصيرة، هي حبكة ترابط ينشئها مبدعها بأقل الكلمات، ولكنه يبلغ لب المعنى، ولمعة الجماليات، ودون خروج عن محورية وفنية النص، الذي يغدو مرئيا للقارئ الفطن.
القصة القصيرة ليست من حكايات الجدات، الممتلئة بمحاولات توصيل وتبسيط الصور للمستمع الصغير، ولا بحشو الكلمات الملهمة، ورسم التعبيرات الشكلية، لتأكيد الاستيعاب، ففيها يتخاطب الكاتب مع من يتمكن من القراءة بسمو فكري، ومن يستطيع تجسيد الحياة التخيلية، والمكان، والزمان، والمشاعر، وملامح وصفات الأشخاص من أقل القليل من السرد، ودون مواجهة سيول وفيضانات من العبارات لا يعود إبحار مركب المخيلة والفكر فيها محكوما بالجماليات، بل لربما تنهار الجدران من حوله، ويحمله التيار كثير الغثاء، إلى حفرة ضيق تقلب الصور، وتضيق من فسحة المسار.
في القصة القصيرة، كل كلمة يفرق وجودها من عدمه، وكل تحديد رمز أو حركة أو هندام أو شكل أو زمان أو مكان، لا بد أن يعطي الهدف منه، فلا تنتهي القصة إلا وفحوى وحكمة الرمز أو الشكل حاضرة المعاني بتأثيرها في المسار والنهاية.
القصة القصيرة ليست كيسا نحشوه بأي شيء، لنحصل في النهاية على مخدة أو عروسة للعب!
وكيانها قريب للشعر في بنائه الرشيق العميق، ويمكن للعين الخبيرة معرفة وجود الحشو من عدمه، ومعرفة جمالية السرد والمتن، والتلميح في الأسئلة والتوضيحات، وبما لا يجرح تكامل وجمالية النص.
يستسهل الكثير حتى من الأدباء وخصوصا كتاب الرواية كتابة نص القصة القصيرة، وتلك مفارقة بين الأوسع والأضيق تجعل النتاج ينكشف، بالضياع بين مطاطية السرد المنطلق في الرواية على كل الجهات، والقدرة على لجم صهوته، وجعله مقننا لا يخرج عن السطور المباحة في القصيرة.
مجال القصة وعوالمه جميلة، ويوجد عدد من المبدعين في هذا المجال، ويمكن لمن أراد الرسوخ البحث عن أعمالهم أمثال (يوسف إدريس، توفيق الحكيم، خليل جبران، إدوارد خياط، غادة السمان، يوسف إدريس وغيرهم)، ومحاولة استشفاف الجماليات وأسرار الصنعة، ودون محاولة للتقليد، إنما لتفهم الخطوط العريضة لهذه المهنة الأدبية، وعدم التساهل في دخول عوالمها بخبرة ناقصة.
سائلي في البداية عن القصة القصيرة، وعن رأيي فيما كتبه، ابتهج بما قلته له، وأعتقد أن ذلك شيء نادر، فمن يتواضع ويسمع اليوم ويعي؟
ومن يحاول أن يتعلم، والبشرية تسارع في خطف الشهرة بمجرد نشر أي كلام يا عبد السلام في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، وللعجب فستجد الردود المشجعة، بل المبجلة، والصفات، التي تنثر على صاحب النص، وكأنه بلغ القمة ولم يعد بحاجة لمعرفة ولا نصيحة.
تشويهات منهجية نعاني منها في أشعارنا، وأدبنا بكثرة النشر، وإبراز الشخص، المقترف للتشويه بشكل يفوق حتى كبار من خدموا الهواية والصنعة الأدبية.
الحل، إما أن نقاطع مواقع التواصل، وإما أن ننشر بينهم وبكل صراحة قلقنا، وانتقادنا وتصليحاتنا، وأفهامهم بأن ما يحدث يجني على أسس المعارف والفنون، ويورث بشاعة التشويه والخلط.