حِرَفيٌّ ماهِر...
«اِبتسمَ لها وهو يكتب رقم هاتفه على قطعةٍ مجعّدة من الورق:
«اِتّصلي بي إن انكسر لديك أيُّ شيء».
مشت والورقة في جيبها، بدا لها أسلوب خطّه المموّج بمثابة وعدٍ ناجز.
كان النهار في منتصفه يوم أَحد، والسماء لامعة وزاهية، حين هاتفته قائلة: «أنا منكسرة».
يقال إنّ في ضرْبِ الأمثال ما يُغني عن السؤال، ولا أدَلَّ على المعاني المقصودة من ربطها بأمثلة حيّة تَجلوها، وتُسهِّل على بعض المُعْسَرين فهمها دون الحاجة لاستفاضةٍ قد لا تُفْهَم مقاصدها ومراميها، وقد يذهب بها المتلقي - إن لم يكن حصيفًا - بعيدًا عن غايتها. أقول ذلك قبل شروعي في تحليل هذا النصّ الإبداعيّ الجميل، الذي أتى به مترجِمُنا الرائع الدكتور عبدالله الطيّب، في مجموعته القصصيّة «الرجل الذي يحبُّ العناق»، وهو للقاصّة الأميركيّة «كاثرين تراتنر»، والذي يمكننا من خلاله التفريق بين الغثّ والثمين؛ وأعني بذلك الفصل بين النصوص العميقة، والنصوص السطحيّة المخادعة التي تخلو من العمق، رغم جمالها الشكليّ، والتزامها بأُسس الكتابة القصصيّة المتداوَلَة.
فهذه الأخيرة لا قيمة لها بالنسبة لشريحة كبيرة من متذوّقي هذا الجنس الأدبي، إذا ما قارنّاها بتلك النصوص المذهلة التي تزهو بمزاوجتها بين الواقعيّة الجميلة التي تدغدغ مشاعر القارئ العادي، والعمق الذي يحمل رسالة ومغزًى يتوقّف فهمهما على الأدوات التي يمتلكها المتلقّي ونباهته. فبعض القرّاء لا يعنيهم من النصوص غير مفرداتها والحكاية السطحيّة التي ترويها، ولا ينشغلون بقراءة ما بين السطور، أو أنّهم لا يستطيعون ذلك...
على أيّة حال، هذا النص الذي انتقاه مترجمنا المبدع الدكتور عبدالله، بعناية يُشكَر عليها، يُعَدُّ من النصوص التي يَحسن الاستشهاد بها عند حديثنا عن قيمة النصوص وجزالتها وقوّتها. نجد أنّه كتب ببساطة وبدون تكلُّف، فبدت سرديّته كأنّها قصّةٌ حقيقيّة، كونه لم يبتعد عن الواقعيّة، مع أنّ النصَّ تخيُّليٌّ بامتياز.
والخيال - كما هو معلوم - يشمل الواقع بمحدّداته المعلومة، ولو كان من نسجنا ولم تكن الحقائق منقولة كما هي. فالحقائق المرويّة (الأخبار) التي نُدرجها ضمن القصّة، قد لا تسلم من تدخّلات الناقل الذكيّة، الذي يُحمِّلها ما لا تحتمل، ويذهب بها بعيدًا عن الوقائع الحقيقيّة. فإن كانت كذلك، أُدرجت ضمن المتخيَّل، دون إخراجها من صفتها الخبريّة. ذلك أنّ الوقائع الحقيقيّة لا توصَف بهذا الوصف إلّا إذا تأكّدنا تمامًا من صدقها، ولم يكن للناقل أيُّ تدخُّل في التأثير على فهمنا لها. وإلّا لأصبحت هي الأخرى خيالًا.
أظنّ خير شاهدٍ على ما أسلفت، ما تُنجزه وسائل الإعلام يوميًّا من لَعِبٍ بالحقائق وتزييفها، من خلال البصمات الخفيّة التي تُغرَس بمكر شديد بين ثنايا الخبر حتّى تُخضعَه لأجنداتها الخفيّة؛ الأمر الذي يجنح بها نحو الكذب الممنهَج رغم استنادها إلى وقائع حقيقيّة.
هذا الأمر يدعونا للتعريج على ما يعتقده بعض النقّاد من أنّ الخيال الإبداعيّ يُعَدُّ كذِبًا، وهو وصفٌ جائر... لا سيّما أنّ شريحة كبيرة من النقّاد العظام لا يذهبون هذا المذهب على الإطلاق، ويصنّفون الكذب على أنّه نوعٌ من القول المرسَل الذي يُراد به تحقيق غاياتٍ معيّنة عن طريق قلب الحقائق والإتيان بها من العدم، وهو غالبًا ما يعلق بالخبر فقط.
أمّا في الأدب، فالخيال في ظنّ النقّاد لا علاقة له بالكذب، حتّى وإن قيل من باب الملاطفة «إنّ أعذب الشعر أكذبه». فالمراد من هذا القول هو أنّ الشاعرَ لن يصلَ حدَّ الإمتاع والإبداع إن لم يتخلّص من القيود المسلكيّة، وعلى رأسها الصدق، لذا لا يعتبرون شعره كذبًا إن كذبَ، بل تميُّزًا وإبداعًا؛ ولو أنّ الأمر خلاف ذلك لكان نقيصة يحاسَب عليها، ولَما حذوا حذوه في ذلك، وبارزوه عليه، وكان مجالًا للتفاضل بينهم.
الكاتب المبدع يحمل رسالةً يريد إيصالها من خلال نتاجه الأدبيّ، ويسمح لخياله الخصب أن ينسجَها على طريقته، حتّى وإن كانت في أصلها وقائع حقيقيّة. كلّ هذه الجزئيّات التي نتحدّث عنها ستتّضح لاحقًا، عند وقوفنا - من خلال هذا النصّ الإبداعيّ - على بصمة الكاتبة الواضحة، التي نقلت الحكاية الواقعيّة من سطحيّتها الخادعة، ومنحتها قيمةً أدبيّة كبيرة بما ضمّتها به من غزير المعاني.
في هذه القصّة تصوّرُ لنا الكاتبة موقفًا معتادًا لصاحب حِرفة، أراد - كما يفعل غيره - أن يبنيَ علاقة جيّدة مع المارّة، على أساس أنّهم قد يحتاجون لخدماته الحِرَفيّة مستقبلاً. فأخذ ورقة ليست ذات شأن، وكتب عليها رقم هاتفه، ووضعها في يد الفتاة بعدما أخبرها أنّه سيكون سعيدًا في حال احتاجت إلى خدماته، فيما لو انكسر لديها ما يستوجب الإصلاح. ومضى في طريقه، ومضت هي كذلك في طريقها... كان تصرّفه على هذا النحو طبيعيًّا وقد يتكرّر كثيرًا في الحياة. وربّما لم يكن ليلفت نظر الفتاة ويجعلها تفكّر في الأمر من زاوية أخرى، لولا البعد السيميائي الجميل الذي بُني عليه النصّ، وأخرجه من السطحيّة المقيتة إلى العمق الذي نبحث عنه في أعمالنا الأدبيّة.
تجلّى ذلك بداية، في العنوان الذي لا يصلح النصُّ مطلقًا بدونه. فالكاتبة عرّفتنا بالشاب من خلال العنوان، من دون ذكر ذلك في ثنايا النصّ. فبدون العنوان لاختلفت المعطيات جملة وتفصيلاً، وهو ما يقودنا إلى القول: إنّ العنوان يشكّل عتبةً غاية في الأهمّيّة بالنسبة للنصوص الأدبيّة، خاصّة حين يتعلّق الأمر بالقصّة القصيرة جدًّا، وإهماله قد يُفسد العمل. هذا جانب. والجانب الآخر نجده في التقاء الشاب والفتاة في الطريق، وليس في أيّ مكان آخر، وإيقافها قليلاً قبل كتابة الرقم ومنحها إيّاه. وهو الأمر الذي لا تفهمه الفتيات - غالبًا - على أنّه بحث عن عمل، بقدر ما هو تقرّب منهنّ. بالأخصّ إن كان ثمّة ما يؤكّد هذه الشكوك، وإن كانت الفتاة جميلة كما يظهر من هذا النصّ.
كان اختيار الكاتبة للموقف رائعًا، إذ أشارت إليه إشارة واضحة بقولها: «مشت والورقة في جيبها». ما يعني أنّه لم يكن يقدّم لها خدمة ومنحها الرقم بعد الانتهاء منها، وإنّما جمعهما الطريق. قيمة هذا الخيار الموفّق للكاتبة، أنّه لو كان الأمر في بيتها وأعقب إنجازه لعمل كلّفته به، لكان في إعطائها الورقة فهمٌ مختلف تمامًا، قد لا يذهب باتجاه الزاوية التي فهمت تصرّفه من خلالها. وللفائدة، لعلّنا نقول هنا، إنَّ مثل هذه الجزئيّات البسيطة جدًّا والتي قد لا يهتمُّ بها بعض الكُتّاب قد تُنجح أعمالنا أو تفشلها.
الآن، هل تظنّون الكاتبة اكتفت بهذه الدلالة السيميائيّة لمنح نصها القوّة والجزالة؟ مع أنّ ما تريده قد وصل من خلال هذه الوقفة الإبداعيّة ومن العنوان المميز. برأيي لم تكتفِ بذلك، وإنّما أصرّت على زرع عدد من الإشارات التي تؤكّد رسالتَها ومدى حرصها على أن يفهم القارئ النصّ على طريقتها؛ فذكرت لنا أنّ الشابّ وهو يكتب رقم هاتفه، كان مبتسمًا. هذه الابتسامة التي نعلم أنّها في ديننا صدَقَة، لقيمتها وتأثيرها على من حولنا. أرادت الكاتبة من خلالها أن تخبرَنا أنّ الفتاة المكسورة القلب لم تستطع تجاهلها، ولمتفهمها إلّا في السياق الذي أراده الشاب، أو الذي أرادته هي. فنحن دائمًا ما نؤوّل الأشياء وفق حاجتنا - كما سنرى لاحقًا عند حديثنا عن الرسالة -. فما الذي يمنعنا من اعتبار أنّ الابتسامة كان هدفها نبيلاً، والغرض منها تسويق الشاب لبضاعته، وبناء علاقة جيّدة مع عملائه، ولم يستهدف فيها الفتاة لوحدها، حتّى وإن كانت جميلة ومستهدفة؟!
كلّ هذه الإشارات لم تغنِ الكاتبة عن الاستفاضة أكثر، لقدرتها على فعل المزيد، وتمكّنها من ذلك، وحرصها على تقوية نصّها. فقد أرادت باستخدامها الورقة المجعّدة، تأكيد المعاني السابقة، والإيحاء بأنّ الشابّ لم يكن مستعدًّا لهذا العمل، وإنّما قرّره فجأة، بدليل أنّه لم يكن لديه أوراق معدّة لهذا الغرض. وكان في حرصه على تناول ورقة ليست ذات قيمة، والكتابة عليها، وعجلته في ذلك، ما يشير بكلّ تأكيد إلى أنّ ما حدث مرتبطٌ بالفتاة شخصيًّا، ولم يكن سلوكًا عاديًّا يستهدف به الشابّ كلَّ المارّة. هذا الأمر يدعونا لالتماس العذر للفتاة بنظرتها إليه من الزاوية التي أرادتها؛ فهذه الإشارة الأخيرة تُخلي مسؤوليّتها من هوى النفس، وتضع الأمر في هذا السياق الغالب، طالما أنّها تمتلك عقلًا راجحًا وقلبًا ينبض.
كلّ هذه الدلالات السيميائيّة الرائعة التي أعطت النصّ قيمة كبيرة وجعلته أبعد ما يكون عن السطحيّة، لم تكن كافية بالنسبة للكاتبة المبدعة، إذ قرّرت أن تقطع الشكّ باليقين. وأظنّها أرادت من ذلك أيضًا، الوقوف مع الفتاة ونصرتها، حتّى لا يتّهمُها الفكر الذكوري بأنّها حمّلت الأمور ما لا تحتمل. فكان إتيانها بالخطّ المتعرّج برهانًا أكيدًا على أنّ الشابّ كتب عبارته تلك بهدف مواعدة الفتاة، وليس التكسّب من تقديم خدماته الحِرَفيّة. فتموُّج الخطّ يشير يقينًا إلى ارتباك الشابّ، وهو ما يكون نتيجةَ إعجابه بالفتاة، ونواياه المبطّنة، وخشيته - كما يظهر من هذه الجزئيّة - من رفضها لهذا الأمر، كونه حِرَفِيًّا بسيطًا قد لا تتقبّله الفتيات إن كنّ في مستوى جمالها.
بالنسبة للفتاة كان هذا اليوم الذي خلت فيه مع نفسها يوم إجازتها، وهو اليوم الذي يكون شؤمًا على أمثال هؤلاء المكسورين، كونهم يعانون الأمرَّيْن عندما يخلو يومُهم من عمل يشغلهم، فتستقوي عليهم أحزانهم، وتُرهقهم باجترار هملها والتفكير فيها. هذه المعاني نستقيها من الوصف الدقيق لهذا اليوم، الذي بدا بريئًا من الانكسارات التي تعانيها الفتاة؛ وهو المعنى العميق الذي أرادته الكاتبة من قولها: «كان النهار في منتصفه يوم أَحد، والسماء لامعة وزاهية». بمعنى أنّه لم يكن للأجواء المحيطة أيّ علاقة بالحالة النفسيّة السيّئة التي كانت عليها الفتاة.
على أيّة حال، توصّلت الفتاة إلى قناعة، وهي أنّ في ما كتبه الشابّ وعدً منه ناجزٌ للوقوف إلى جانبها، وإنقاذها ممّا هي فيه؛ ما دفعها لمهاتفته وإخباره صراحة بانكسارها، وسؤاله إن كان بإمكانه إصلاح حالها. وفي ذلك إقرار بأنّ قلبها يحتاج لمن يطبّبه ويقضي على علّته، وأنّ هذا الشابّ هو الشخص المرشّح لإنجاز هذا العمل...
بالطبع كلّ ما ذُكر هنا لم يكن نصًّا ظاهرًا وصريحًا، وإنّما خلصنا إليه من سيمياء النصّ الإبداعي. هذه السيمياء التي لم يكن باستطاعتي استخراجها لو لم تكن موجودة بالفعل، وتحتاج فقط إلى من ينقّب عنها في أحشاء النصّ. وهو ما نعنيه بالرسالة والمضمون اللّذين لا تُقبَل النصوص الإبداعيّة، ولا يكتمل جمالها وتَخلد في ذهن المتلقّي، إلّا بهما. بينما لو جُرِّدَ هذا النصّ من الدلالات والإشارات العميقة التي تغذّي المعاني المستقاة منه، لأصبحَ نصًّا سطحيًّا لا يستحقّ المطالعة والانشغال به، ولما شقي الدكتور عبدالله في سبيل الحصول على موافقة كاتبته، وإدراجه ضمن مجموعته.
إنّ الرسالة التي أردنا إيصالها، إنّما هي التأكيد على أهمّيّة العمق الإبداعي الذي يجعلك تخرج بفهم معيّن للنصّ، يتجاوز مظاهره السطحيّة. ولعلّ أهمّيّة هذا النصّ تكمن في أنّه أوقفنا على خبرات رائعة، رغم بساطته وقلّة كلماته! كذكره أنّ فهمنا وتأويلنا للأحداث التي تصادفنا، غالبًا ما يتأثّر بحاجتنا، وأنّ علينا التنبّه لذلك حتّى لا نصرف الأمور عن نِصابها الصحيح. فالفتاة لو لم تكن مكسورة بالفعل، لظنّت أنّ الشابّ متلاعبٌ أراد التكسّب منها ماليًّا، أو حتّى عاطفيًّا، ولقذفت الورقة في وجهه ووبّخته، ولما فهمَتْ كلّ الدلالات السابقة على النحو المقصود، ولاستطاع أيٌّ منّا تأويل كلّ ما حدث بطريقة مختلفة عمّا أوّلَتْه الفتاة.
كذلك يخبرنا هذا النصّ أنّ علينا أن نرميَ سنّارتنا في البحر دون التفكير في السمك الذي سيعلق بها، فالأرزاق بيد مسبّبها. وهو مغزى عظيم يمكننا استخلاصه من هذه القصّة. فالشابّ عندما جازف بإعطاء الفتاة رقم هاتفه، لم يكن موقنًا مِن استجابتها. فعَلَ ذلك وحسب. إلّا أنّها تجاوبت معه وهاتفته. ولعلّي أتوقّف هنا ذاكرًا أنّ وجود الرسالة يعطي قيمة للنصّ، حتّى لو لم نتّفق معها أو مع بعض تفاصيلها، وخالَفَت ثقافتَنا وأخلاقَنا.
يمكن أيضًا أن نرى رسالةً أخرى تضمّنها هذا العمل الإبداعي، عندما أرشدَنا إلى عدم إهمال الأشياء التي نصادفها في طريقنا، حتّى وإن لم نكن بحاجتها في وقتها، فقد تأتي حاجتها مستقبلاً. كما حصل مع الفتاة التي وضعت الورقة في جيبها ومضت لحال سبيلها، ولم يكن واضحًا إن كانت ستتّصل به أم لا. حتّى إذا ما كان يوم الأحد الذي اشتدّ فيه وجعها، واحتاجت قلبًا يهدهدها، اتّصلت به وأخبرته صراحة بحاجتها إليه.
على أيّة حال، إنّ مثل هذه النصوص المفتوحة على كلّ الاحتمالات، لا حدَّ لتأويلاتها. فقد يأتي قارئ غيري ويقرأها من زاوية أخرى، ويكون لديه ما يبرّر قراءته تلك. ولا أظنّ الكاتبة ستنكر على أيٍّ منّا تأويله، فالنصّ لم يعد ملكها بل ملك قرّائها، والأكيد أنّنا غالبًا ما نتّفق على أنّ مثل هذه السرديّات المختزَلة والمكثَّفة جمالُها يكمن في عمقها.
** **
- حامد أحمد الشريف