الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
أسهمت وسائط التواصل الاجتماعي في ارتفاع نسبة المظاهر السلبية في مجتمعنا مع الأسف، وأصبنا بانحدار أخلاقي لا يرتبط بدين ولا موروث شعبي، وهي تصرّفات لا تمتّ للدّين ولا للشّيم ولا للأخلاق إنّما هي أقرب لما وصفه الله -عز وجل-: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}، والمؤسف حينما يكون التباهي عملاً جماعياً تشارك فيه الأسرة والقبيلة والمدينة والزملاء على حدٍّ سواء.
"الجزيرة" استطلعت رؤى عدد من المختصين في العلوم الشرعية والاجتماعية والتربوية لمعرفة السبل الكفيلة لتوعية المجتمع بمخاطر تلك التصرفات الهوجاء البعيدة عن الاتزان والعقلانية للحد منها، وتحجيمها، وكانت رؤاهم على النحو التالي:
الدعايات المضللة
يقول الشيخ الدكتور صالح بن عبدالرحمن بن سليمان المحيميد رئيس المحاكم بمنطقة المدينة المنورة سابقاً، من أعظم النعم على المسلم أن هداه للإسلام لأن الإسلام ضمان من الشقاء في الدنيا والآخرة، وتعاليم الإسلام عظيمة متوافقة مع الفطرة التي فطر الله عز وجل الخلق عليها، ومن أهم الأخلاق الإسلامية وأنفعها للفرد والمجتمع الاعتدال في كل شيء حتى في العبادة لله سبحانه وتعالى، وضد الاعتدال الانحراف عن الوسطية نقصًا أو زيادة؛ فالنقص مذموم والزيادة غير محمودة، وإن من الأخلاق المذمومة شرعًا وعرفًا الإسراف والتبذير والتباهي بالإنفاق من غير حاجة، قال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}، وقال سبحانه: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}؛ فالتبذير له أضرار خطيرة على الفرد والمجتمع في كل مكان وزمان، وفي وقتنا الحاضر ظهر الإسراف والتباهي بالأسفار والصرف الزائد من القادرين وغير القادرين على الموائد والأثاث والمساكن وغيرها؛ فالقادر إذا أسرف في صرف ما لديه تحول لغير قادر، وغير القادر يلجأ للاقتراض بفائدة أو بدون فائدة، وربما لجأ للتسول أو السرقة من أجل أن ينفق بسخاء، وما أكثر المسجونين بحقوق الآخرين بسبب الاستدانة للإنفاق في أوجه لا يراد بها إلا المباهاة والمفاخرة والظهور بمظهر القادرين وهو خلاف ذلك، وإنما هو إنفاق من أموال الغير وشعور بالنقص وتغطية للفشل في الحياة، وإن من أسباب ذلك ما يرد في بعض وسائل التواصل الاجتماعي من مظاهر مزيفة ودعايات مضللة تحث على الصرف والسفر والدين والاقتراض، وإن الواجب علينا أن نعي ما يراد من وراء هذه الدعايات المضللة التي إذا استمرت سوف تخلخل المجتمع وتورث الحسد والنقمة من غير القادرين على مجاراة ما يرونه على بعض وسائل التواصل الاجتماعي من المظاهر الكاذبة والبذخ الزائد، وكم من أسرة اختلت بسبب ما تشاهده من المظاهر ورب الأسرة لا يستطيع الإنفاق، وعلى مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي أن يتقوا الله سبحانه وتعالى فيما يقولون ويفعلون ولا يتفاخرون فيما يرجع على الأمة بالضرر، ويرجع عليهم بالإثم والسخط من الجبار عز وجل.
شكر النعم
ويؤكد الدكتور عبدالرزاق بن حمود الفقيه الزهراني أستاذ علم الاجتماع على أنه من المهم أن يتم غرس شكر النعم في نفوس الناس، وخاصة في نفوس الناشئة، من خلال الأسرة والتعليم والإعلام والمسجد، وتنشئتهم على معرفة قيمة النعم والحفاظ عليها، واستخدامها بتعقل ورشد، فرسولنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم كان يبيت طاويا ومثله بعض الصحابة، ويجب تعليم وتنبيه جميع فئات المجتمع أن من سنن الله التي لا تتغير أن شكر النعم يؤدي إلى زيادتها، وأن كفر النعم يؤدي إلى زوالها، قال تعالى: {ولَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} والشكر لا يكون باللسان فقط وإنما بالعمل، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}، والتبذير ينافي شكر النعم وهو مؤشر على الكفر بها، ودليل على عدم حسن التدبير، ويجب على الناس جميعاً شكر نعم الله وعدم صرفها واستخدامها في غير حقها، وخاصة في بلد يعتمد على استيراد الكثير مما يستهلك وخاصة الغذاء، كما يجب على الجهات المختصة الأخذ على أيدي السفهاء الذين اتخذوا (الهياط) منهج حياة، فنحن نبحر في سفينة واحدة، وقد يؤدي عمل هؤلاء السفهاء إلى خرقها، ومن ثم غرق جميع ركابها، لا سمح الله. والله الموفق.
الإشكالية الجديدة
وترى الدكتورة نوف بنت عبدالعزيز الغامدي مستشارة تنمية اقتصادية، عضوٍ لجنة التنمية الاقتصادية بمجلس إمارة منطقة مكة المكرمة أن المفاخر السلبية والمرائية وكفران النعم كانت دائماً رمزاً للتفاخر الشكلي الذي لا يرتبط بالإنجاز الحقيقي، بل بالادّعاء والتباهي، وأكثر من ذلك فهو ينسب إليه إنجازات الآخرين، مشيرة إلى أن الجديد في هذه الإشكالية الاجتماعية، أنها تصبح أكثر انتشاراً وتأثيراً في عصر التواصل والإعلام الجديد، الذي يقوده الأفراد أنفسهم، بعيداً عن أصول النشر، وأساسات الكتابة، عبر منصّات التدوين والتواصل، وهناك افتخار فجّ بالنّفس، وإظهار الجاه والحسَب والنَّسب، والبعض ينشر صوراً ومشاهد لنفسه وهو يساعد فقيراً، ويقدّم له الأكل والمال، وتحتفي صور الإعلام الجديد، بطقوس العبادة في شوارع المدن الغربية، وفي محطات الباصات، فيما الأجدر بأصحابها، تأديتها في أماكنها المخصصة لها، وتنزلق المرائية بسبب مواقع التواصل التي تتيح النشر اللحظي يجعل الفرد من نفسه محور اهتمام الآخرين، ويحسب ذلك على السلوك الجمعي الذي بات يحفل بالكثير من عدم الثقة المتبادلة، والإفلاس الأخلاقي الذي يقوم به المتباهون.
تباهي الأكاديميين
وتضيف الدكتورة نوف الغامدي أن التباهي في وسائل التواصل الاجتماعي يتوسع إلى الأكاديميين الذين ينشرون حتى حفلات مشاركاتهم في الندوات والفعاليات الاجتماعية، من دون نص عن جدوى الأطروحة وخلاصة قصيرة لفحواها، تعميماً للفائدة، ومع ذلك، فإنّ العواقب لمثل هذا الاختلال ليست خطيرة دائمًا، بل تكون في بعض الأحيان إيجابية لأنها تكشف أولئك المتستّرين خلف الكذب، وكيف أنهم "يقولون شيئًا لكنهم يفعلون شيئًا آخر"، كما إن ّالنزاهة السلوكية في العمل والحياة اليومية، يجب أن تبتعد عن المنفعة الأخلاقية غير المستحقّة التي يرسمها النفاق، لكن ذلك وللأسف، يفوت على بعض الجمهور الذي يتفاعل مع الاختلال، ويقع في الارتباك المفاهيمي الذي يسوّقه الفعل الكلامي المرائي، حيث أصحابه يفشلون في ممارسة ما يعِظون به لاسيما حين يعتبرون أنفسهم أنموذجاً للقيادة وتمثيل الناس في المحافل، ولاشك أن تجاوز هذه المظاهر السلبية تتأتى بتنشئة اجتماعية سليمة تجعل الفرد متوازناً نفسياً واجتماعياً واقتصادياً ينظر إلى الآخرين من باب التعاون وليس من باب التنافس والتنافر، والتنشئة الاجتماعية السليمة لا تقتصر على الأسرة وحدها بل تشترك المدرسة والبيئة الاجتماعية ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في ذلك كله، كما أن التوعية بأن ثقافة التباهي والتفاخر تنحصر في التنافس الشريف من خلال التفوق في الدراسة وميادين العمل والإنجازات والابتكارات التي ترفع رأس صاحبها وتعود بالنفع على مجتمعه ووطنه، ولابد من الانتباه من إغراق أنفسنا بالديون من خلال التوازن بين المدخول والمصروف، وعدم الانبهار بالمظاهر الخارجية للآخرين ومحاولة تقليدها، مع التأكّد من أنّ قيمة الإنسان في أخلاقه وحسن سلوكه وتصرفاته وعلاقاته المميّزة مع الآخرين وليس في ما يمتلك، وعدم المجاهرة بما نمتلك أمام الآخر، فهو لي ولا يزيد على غيري شيئاً، وللعائلة دور مهم في التنشئة السليمة للأبناء عبر كوننا المثل الذي يقتدى به، من خلال تركيزنا على القيَم والمبادئ والأخلاق بالإضافة إلى القناعة والرضا، وعدم التعاطي مع الناس على أساس ما يملكون، وعدم تلبية جميع الرغبات الترفيهية للأبناء، وتعليمهم على الالتزام بمبالغ معيّنة، ومن الضروري الاهتمام والعناية بالشكل الخارجي لكن ذلك يجب أن يتمّ بالتوازن مع الجوهر، كما على الفرد أن يُحسن إدارة ماله، فلا تفوق نسبةُ إنفاقه مدخوله، ولا بدّ من سلّم أولويّاتفلا نهمل الأمور الأساسية كتعليم الأبناء مقابل دفع ثمن سيارة فخمة حفاظاً على المظهر الخارجي.
وشددت الدكتورة نوف على أن التباهي والتفاخر هو مشكلة حقيقية لا بل آفة اجتماعية، حيث يُمعن الفراغ الداخلي في إبراز المظهر الخارجي الفخم والجميل، ما يساهم في تنامي السطحية والغش والكذب، ويشجّع على السرقة والاستغلال، مع الانجرار وراء المظاهر الخداعة فقط ينحدر مجتمعنا، حيث يصبح أبناؤه في غالبيتهم منغمسين في سباق فارغ، ويمعن الجاهل المتموّل في إذلال المثقّف، ذات المبادئ والأخلاق الحميدة. لننعم بما وهبه الله لنا من جمال داخلي وخارجي ولنقتنع بأنّ لدى كل واحد منا أسباباً كافية كي يحبّه الآخرون بعيداً من الابتذال والمبالغة.
الغث والسمين
ويشير الدكتور عبدالله بن صالح الحمود أستاذ علم الاجتماع الجنائي أن وسائط التواصل الاجتماعي أتت بما هو مفيد وبما هو ضار، وأتت بمسببات منها قطيعة الرحم، فكل محتوى تحتويه هذه الوسائط هو ما ينجم منه الغث والسمين، السلبي والإيجابي، والمؤسف له أن تلك الأمور لا تخضع لجيل عن آخر، بل أضحى الكل صغيراً أو كبيراً منافساً بل مدعياً أنه الأفضل والأقدر من الآخر، والمشكلة الكبرى والمؤرقة في الوقت نفسه، هي مسألة ما يستهويه البعض من التفاخر أمام أصدقائه وأقاربه باستعراض مقتنياته الثمينة، وحفلاته الباذخة، من الأطعمة وديكوراتها الاستعراضية حين يستعرضون بها على مواقع التواصل الاجتماعي، داعمين ذلك بالصوت والصورة لشد انتباه العامة، وكأن هذا الأمر هو شغلهم الشاغل، وكل هذا لأجل التباهي والمفاخرة، والبعض من هؤلاء البشر يسعى ليصل إلى اكتساب أعداد من المتابعين لأهداف ربما تجارية، وإن كان ذلك حق له، إنما لا يمكن أن يأتي بصور تخدش الحياء أو تسيء للآخرين، والخطير أن نتاج ذلك مؤداه تحول تلك الممارسات لدى البعض إلى إدمان تنافسي بحثاً عن وجاهة اجتماعية زائفة، لتتفشى عدوى ذلك بين فئات كبيرة في المجتمع، ورغم أن الأمر يصل بأمثال هؤلاء إلى الاستدانة المالية في بعض الأحيان والتي مؤدها نشوء اعتلالات نفسية حال عدم الوفاء المالي لمن استدانوا منهم، ولعلنا نختم بالقول إن مواقع التواصل الاجتماعي فتحت ميداناً لزعزعة ثقة الإنسان بنفسه، بسبب قضية المقارنات؛ فالواقع أن من أهم عناصر السعادة والنجاح هو الثقة بالذات وبالقدرات؛ ففي الأزمنة الفائتة كان الإنسان يقارن نفسه بأقرانه، ومن البيئة نفسها، بينما في حاضرنا ومع انتشار «مواقع التواصل» اختلفت البيئة القائمة عليها المقارنات، فنجد مثلاً في ما يخص الجمال أن تلك المواقع تهز ثقة الإنسان بجماله، ليبحث عن الجمال المزيف، كمن يدمن عمليات التجميل، والادعاء بتملك الثروات والنسب والقبيلة، نسأل الله الهداية، وأن ينعم علينا بالرشد والقناعة، وألا نصل بذاتنا خلاف ما وهبنا الله به، من سعادة وقدرة ونعيم.