د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
تستحق الثقافة في بلادنا بمفهومها الشامل وباستراتيجياتها الحديثة التي تحمل أنباء ثرة تستحق ُتمهينا تخصصيا لتورق أغصانها؛ فلقد بدا واقعنا الثقافي اليوم مختلفا في النظرة والتصنيف؛ وقد توشحتْ الثقافة السعودية استباقاتٍ تفيضُ عندما تمت الموافقة على الابتعاث الثقافي في مطلع العام 2020 كمنهج عميق للاندماج مع العالم واستثمار المشتركات الإنسانية؛ وأعقب ذلك إحياء من اندثر وخَفَتَ ضؤوه من الثقافات، واستحداث أخرى جديدة تحمل مفاتيح التجديد والابتكار لتدشين الاقتصاد الثقافي بمفهومه الواسع؛ فعندما حضرتْ في المشهد الثقافي الوطني هيئة الأدب والنشر والترجمة، وهيئة الأزياء، وهيئة الأفلام، وهيئة التراث، وهيئة فنون العمارة والتصميم، وهيئة الفنون البصرية، وهيئة المتاحف، وهيئة المسرح والفنون الأدائية، وهيئة المكتبات، وهيئة الموسيقى، وهيئة فنون الطهي اتجهتْ الأنظار نحو عمليات التشغيل والكادر البشري فمجمل مهام تلك الهيئات إدارة ودعم وتطوير وترقية القطاع الثقافي السعودي بمختلف ضروبه، وكما أوضحت وزارة الثقافة في حينه أن كل هيئة ستتولى مسئولية نهوض غزيرة بأحد القطاعات الثقافية؛ فاستشرفنا مع ذلك الخصب الجديد حضورا مختلفا للثقافة في بلادنا في مواكبها الجديدة «واحتضان البدايات المنزوية خلف الجدران التي تنشد َحُزمة ضوء، ومن اللافت لذلك المكوِّن الجديد للإبداعات الوطنية أنها تُعدُّ لكل مبدع تمهينا لمحتويات عقله، ومعايير بناء تمنحهم جميعا الامتيازات، ومن أولويات بناء استراتيجيات التشغيل لتلك الهيئات الوليدة ألا يكون مفهوم الثقافة متكئا على صناعة الأداء والعمل؛ بل متكئٌ على المعرفة الغزيرة التي تصنع المبدعين فلا بد من استحداث مؤهلات جديدة» في مسارات العمل في تلك الهيئات تنجزه الجامعات، ولا بد لذلك من شراكة إستراتيجية مع الهيئات المستهدفة فيما يختص بالتخطيط للبرامج، واستيعابها في مسارات مختلفة أكاديميا وذلك يشمل استحداث وتفعيل الدرجات العلمية القصيرة، والدرجات العلمية المشتركة أو المتعددة في تشكيل الكوادر البشرية لتلك الهيئات الثقافية الاقتصادية، ثم إن التحولات العالمية التي أصبح لبلادنا وفير المكاسب منها تنشد أيضا اكتمال حضور تلك الهيئات الثقافية في المشهد السعودي لإحداث التوازن والانسجام والقيم العليا ذات الصبغة السعودية المرتبطة بتشكيل الهوية في بلادنا الغالية، والثقافة مفتاح ذهبي للوصول إلى العالموكم نحتاج للقوة الناعمة بمستندها الثقافي المتنوع، وترسيخ قوي لمنهجية الثقافة في قواعد التأسيس لتلك الهيئات يحتاج أيضا إلى استراتيجية تعتمد (المثاقفة) وليس (التثقيف) في برامج ومشاريع كل الفنون التي وردت في وسم كل هيئة، وقد أثبت الواقع التطبيقي بأن التثقيف المعتمد على المرسل والمستقبل لا يمكن أن يحدث فرقا في الذهن ما لم يقترن بدوائر النقل المتبادل وأن يلامس حاجة الطرفين ثم نأتي للخطاب الثقافي المتنوع اليوم فلا بد أن تضعه وزارة الثقافة تأسيسا على كونها المرجعية النظامية للهيئات الثقافية تضعه فوق طاولة التشريح حتى لا يتداخل الخطاب الثقافي إلا وفق الاختصاص الدقيق فلعل الوزارة لا تنفق وقتا كثيرا في تصنيف الفنون وتحديد مرجعياتها ويكون الاهتمام الأعلى هو تنمية ثقافة الابتكار الثقافي في كل الأصناف المنتمية له تتصدرها الفنون والآداب والمهن والحرف ذات الجماليات الواضحة التي أفردتْ لها وزارة الثقافة محاضن خاصة، وأن تهتم بصناعة الشغف بمنتجات الفنون والآداب وقد يفضي ذلك إلى تنصيب الفنون والآداب حكما على جودة الحياة! ويسعدنا ذلك الالتفات الجدير للاحتراف كمطلب لمن يقف على إدارة فنون الثقافة لكونها أصداء حية لحياة الناس فكل حضور ثقافي تُشرَعُ من خلاله نافذة ضوء، وتلك حزم من دروب شتى متاحة للهيئات الثقافية لتلبي احتياجا أزليا لحياة العقول في مجتمعاتنا السعودية المتحضرة؛ ولتكون صناعة الفنون الثقافية ممارسة تلقائية تؤسس لبناء الرأي السليم؛ فالثقافة وإن كانت مكتسبات فردية فهي دعائم مجتمعية لتحفيز الفكر وذخائر مفضلة بدرجة عالية في مراحل الزمن المختلفة إذا ما صفت مواردها.
وصواب الحقيقة أن نبدأ وننشر تلك الفنون والثقافات عبر تلك الهيئات التي زرعت تفاؤلا ممتدا؛ ثم نسكبُ عليها من رؤى التطوير والدعم المعرفي والمهاري ما يناسب مقتضى الحال والحقيقة...