عبدالرحمن الحبيب
كان العالم الروسي الشهير إيفان بافلوف يقوم بدراسات على عملية الهضم عند الكلاب في معمله.. في بداية التجربة، يفرز الكلب اللعاب بوجود الطعام فقط، وهذه خاصية طبيعية وراثية.. ثم أضاف بافلوف جرساً يدق أثناء تقديم الطعام، وبعد تكرار ذلك، بدأ الكلب في التفاعل مع الجرس حتى دون وجود الطعام بنفس الطريقة التي كانت مع وجود الطعام: أي إفراز اللعاب، وهذه خاصية غير طبيعية بل اصطناعية.. ومع تكرار التجارب في وقت لاحق تبين أن لعاب الكلاب في تجربة بافلوف تبدأ بالسيلان بمجرد تهيئتها بأجهزة التجربة.. هذا يسمى المنعكس الشرطي أو الاستجابة الشرطية وهي نظرية معروفة في التعلم الترابطي تعنى رد الفعل التكيفى للكائن تجاه منبه خاص يُكتسب من وضع الكائن مراراً في الموقف نفسه..
على هذا المنوال يرى باحثون ردود بعضنا تجاه صوت الهاتف الجوال، تقول الدكتورة كارولين فيل رايت، المسؤولة بقسم الابتكارات الخاصة بالرعاية الصحية بالجمعية الأمريكية لعلم النفس، إنه «حتى إذا استطعت التمييز بين أصوات التنبيهات المختلفة التي تصدر من هاتفك، فسيتحول الأمر لديك في مرحلة ما، إلى إصدار استجابة تلقائية تشبه الاستجابة التي تحدث عنها العالم بافلوف (في تجربته الشهيرة)؛ إذ يكفي أن يصدر صوت هذا التنبيه أو ذاك من هاتفك، لكي تموج نفسك بالقلق». فصدور مثل هذا الصوت يوحي بأن «شيئاً فظيعاً قد حدث، حتى لو لم يكن ذلك صحيحا».
في الهند، تم إجراء دراسة وصفية بين أفضل جامعتين في تشيناي مع عينة من 90 مشاركًا. وجدت النتائج أن هناك علاقة إيجابية بين الشعور بالقلق والنشاط الجاد على الشبكات الاجتماعية عبر الإنترنت أكثر من الحياة الواقعية. خلصت هذه الدراسة إلى أن المزيد من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وعدد وسائل التواصل الاجتماعي، والكثير من الوقت الذي يقضيه المرء على مواقع التواصل الاجتماعي يؤثر على الصحة العقلية للطالب مثل الاكتئاب والقلق (المجلة الدولية للبحوث العلمية والتقنية، مارس 2020).
تقر الأبحاث السابقة بأن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لفترات طويلة يرتبط بالعديد من العواقب النفسية السلبية، بما في ذلك المستويات المرتفعة من الاكتئاب والقلق والتوتر حسبما تذكر دراسة بعنوان «تفسير التعاطف مع الذات واستخدام انستجرام من خلال العلاقة بين القلق والاكتئاب والتوتر (مجلة التكنولوجيا في علم السلوك، 2020)، خلاصتها أن كثافة استخدام انستجرام قد تؤثر على الصحة النفسية، حيث أبلغ المشاركون الذين قضوا وقتًا أطول على انستجرام عن حالة نفسية سيئة.
لكن ما هي أسباب الانزعاج والشعور بالقلق؟ تتفاوت الأسباب، هناك من يشعر بالقلق، من إمكانية فقد الأخبار والمعلومات إذا لم يطالع بعض الرسائل أو لم يتابع سلسلة رسائل وردت على إحدى المجموعات (القروبات).. هناك من يشعر بالذنب بسبب عدم القيام بالواجب إذا لم يرد على أي من هذه الرسائل، بشكل فوري، خاصة الذي يتوقعون منه رداً فورياً من أصدقاء وأقارب وزملاء عمل.. أو الشعور بالقلق من ردودهم وتعليقاتهم.. ومن المفارقات أن ثمة من يؤكد شعوره بالملل لكنه لا يستطيع التوقف خشية تفويت المطالعة أو نقد الآخرين.. بجانب ذلك هناك من يخشى تراكم الرسائل الفائتة وتحولها إلى عبء مشابه لجهد العمل الرسمي في البريد الإلكتروني..
تبدو أحد أهم الإشكاليات هي صعوبة وجود مهرب أو عذر تقدمه للآخرين عند عدم اطلاعك على رسائلهم أو عدم ردك عليها. ففي السابق كانت الاتصالات الصوتية المباشرة بالهاتف التقليدي وهو جهاز مثبت في موقع واحد قد لا تكون قربه، وكان عدم الرد قد يرجع لعدة أسباب عديدة كبعد جهاز الهاتف والمرض والسفر..الخ. أما حالياً فمن النادر أن تجد مبرراً لعدم الرد وحتى الانشغال سيبدو للبعض فظاظة، فما بالك بعدم الرغبة في الرد!؟ أصبح الرد قسرياً من الناحية الأخلاقية ومجهداً من الناحية النفسية!
يقول إلياس أبوجودة (متخصص في علاقة التكنولوجيا وعلم النفس، جامعة ستانفورد): «أحد أسباب إجهادنا هو الإلحاح الداخلي لقراءة نص ما فوراً، والتوقع الموازي في الثقافة عبر الإنترنت بأنك ستستجيب أيضًا في ذات الوقت.. إنه يعطينا إحساسًا بالتخلف عن الركب وكسر قاعدة رئيسية للاتصالات عبر الإنترنت». هذا التخلف عن الركب يمكن أن يتراكم ومعه يفاقم الشعور بالضغط.. إنه يمثل «دينًا مخيفًا للاتصالات يمكننا الآن تراكمه من خلال وجود رسائل غير متزامنة» على حد وصف الباحث بيرني هوجان (معهد الإنترنت بجامعة أكسفورد).
لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي متنفس ممتع ومجال ترفيهي ومعرفي، ومن الطبيعي أن يصاحبه بعض الممل من جهة وبعض التوتر من جهة أخرى، لكن ذلك لا يعني إيقاف وسائل التواصل الاجتماعي، إنما الفكرة تكمن في الحد من وقت الشاشة على هذه التطبيقات وتنظيم استخدامها حسبما ينصح المختصون.. فيمكنك بين فترة وأخرى إيقاف تشغيل هاتفك، أو وضعه في مكان بعيد عن متناول يدك، أو التوقف مؤقتاً عن التفاعل مع مجموعات الدردشة او تحديد أوقات معينة باليوم لهذا التفاعل مع الاعتذار لهم بلباقة.. الأكيد أنك لست مجبراً على الرد مباشرة ولست مجبراً لتبرير عدم ردك..