صبحي شبانة
مرت العلاقات البينية العربية بموجات من الصعود و الهبوط، ما بين التفاعل والتمازج إلى التشاحن والتباعد، من التآخي إلى العداء، ومن رفع الشعارات الوحدوية والعنتريات الجبهوية الفارغة إلى الاتهامات بالتآمر والخيانة، لكنها في الأغلب الأعم كانت تتسم بالحفاظ على مستوى من الحد الأدنى من العلاقات التي لا تؤدي إلى الانهيار أو الانزلاق في حروب أو خلافات عميقة إلا في حالات نادرة في التاريخ العربي القريب والمعاصر والتي كانت دائماً ما تأتي من زعامات ترفع شعارات تقدمية تهدف من ورائها إلى الحشد الجماهيري، تفتعل أخطاراً خارجية تقفز بها على مشاكلها الداخلية، وهو ما كان يؤدي عادة إلى فقاعات سرعان ما تنتهي بالفشل والندم لكن بعد فوات الأوان.
ومع تزايد تحديات العصر، وتغيّر معطياته، وتبدل موازين القوى في البلاد العربية، خصوصاً بعد تسونامي الخريف العربي الذي ضرب الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وأطاح بالجيوش في عدد من الدول العربية، توجهت النخب الثقافية والفكرية والسياسية في العالم العربي بأنظارها إلى المملكة العربية السعودية (بعد انكفاء مصر على شواغلها الداخلية) كون المملكة تمثِّل الركيزة الأساسية التي بمقدورها ترميم الجسد العربي الذي أنهكته الثورات والحروب، والخيانات الحزبية، وإرهاب الجماعات الأصولية المتطرفة، وللحقيقة فإن قادة المملكة رغم التحديات الكبيرة والجسيمة التي تواجهها كانت دائماً عند ظن الشعوب العربية بها ولم تلتفت إلى نتوءات وجروح الماضي التي لا تزال بقايا من خدوشها على الجسد العربي المنهك.
مفاهيم جديدة لم تكن موجودة من قبل في العلاقات الدولية والعلوم السياسية تؤسس لها الدولة السعودية الحديثة، يوماً بعد الآخر تضعنا القيادة السعودية أمام حقائق جديدة ملهمة، أمام تطورات بنيوية معجزة طالت الإنسان والمكان وتجاوزت الزمان، هنا على أرض المملكة التاريخ يكتب فصولاً جديدة، ويفرض واقعاً ملحمياً مغايراً، ينصهر فيه الجميع قيادة وشعباً وحكومة داخل بوتقة العصرنة والنهضة والتحديث، تلك هي فلسفة نظريات الحكم التي وضعتها قيادة شابة ترى الغد السعودي بعيون المستقبل العربي، الحاضر في مفهومها هو ماض مرَّ وفات، لا وقت لديها للعتاب واللوم أو الحساب أو الاسترخاء، تنظر إلى محيطها العربي من واقعها السعودي، ترى أن الأمن القومي العربي هو شأن داخلي محلي، هي التي أدركت ببعد نظرها منذ اللحظة الأولى أهمية المرحلة التاريخية التي تفرض المزيد من التعاضد والتلاحم والتآزر في مواجهة حالات الانشطار التي ضربت دول الأطراف العربية وفصلتها عن محيطها العربي يعد أن كانت تمثّل حواجز مانعة أمام بعض القوى الإقليمية الجامحة والطامعة التي أفصحت وكشفت عن نواياها في الهيمنة على بعض البلدان وكل الثروات العربية، ورغم التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها المملكة سواء على صعيد التطور المستمر في الحراك الاجتماعي والثقافي والاقتصادي أو على صعيد مواجهة الاعتداءات الحوثية في الجنوب إلا أنها لم تتوان أبداً ولم تتخلف يوماً عن محاولة استنهاض العراق، وإعادة الاستقرار إلى سوريا، ووأد الفتنة في اليمن، وحلحلة الأوضاع في ليبيا، الشواغل السعودية لا تقف عند حدود الجغرافيا، ولا تهتم إلا بكل ما يحقق متطلبات الأمن القومي العربي والإقليمي.
يظل الأمن القومي العربي هماً سعودياً خالصاً، فعلى مر مائة عام مضت كانت فيها المملكة العربية السعودية في ظل قياداتها المتعاقبة هي العنصر الجامع لعالمها العربي رغم حالات الشطط التي كانت تعتري البعض والتي كانت تزرع عوامل التشتت والتفرقة، كانت المملكة دوماً تنزع فتيل الشقاق والخلافات لترسخ مكانها مبادئ التعاون والتآخي ولا تزال تفعل، مفاهيم العلوم السياسية في العالم تتغيَّر، لكن مبادئ الأمن القومي العربي لدى القيادة السعودية راسخة لا تتبدل.
** **
كاتب صحفي وإعلامي مصري - مدير مكتب روز اليوسف الصحفية بالمملكة