د.عبدالله بن موسى الطاير
بدءاً باتفاقية «أوكوس» التي أعلنتها الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا لتبادل التقنيات العسكرية المتقدمة في محاولة لمواجهة النفوذ الصيني، وليس انتهاءً باختراق أرتال من الطائرات الحربية الصينية أجواء تايوان، وتصريح الرئيس شي جينبينغ الداعي إلى الوحدة سلمياً، مع التحذير الإيحائي أن الشعب الصيني لديه «تقليد مجيد» في معارضة النزعة الانفصالية، يترقب العالم لحظة الصدام بين أمريكا والصين على تخوم تايوان.
لسنوات طويلة مارست كل من أمريكا والصين سياسة الغموض الإستراتيجي تجاه تايوان، فقانون العلاقات مع تايوان الذي تبنته لجنة الشؤون الخارجية بالكونجرس في عام 1979م لم يقدم التزامات قاطعة تجاه حماية تايوان، وإنما نصَّ على «الحفاظ على العلاقات التجارية والثقافية ... الشاملة والوثيقة، والودية بين شعب الولايات المتحدة الأمريكية وشعب تايوان ... وأن السلام والاستقرار في المنطقة هما من المصالح السياسية والأمنية والاقتصادية لأمريكا والعالم. كما نص على «توقع» أن مستقبل تايوان سيتقرّر بالوسائل السلمية وأن أي جهد يرمي إلى تقرير مستقبل تايوان بطرق أخرى غير الوسائل السلمية، بما في ذلك المقاطعة أو الحظر يمثّل تهديدًا للسلام والأمن في منطقة غرب المحيط الهادئ ومصدر «قلق بالغ» للولايات المتحدة، وأن الولايات المتحدة ستزوّد تايوان بأسلحة ذات طابع دفاعي، مع المحافظة على قدرة الولايات المتحدة على مقاومة أي لجوء إلى القوة أو أي أشكال أخرى من الإكراه من شأنها أن تعرض للخطر الأمن أو النظام الاجتماعي أو الاقتصادي لشعب تايوان.
الغموض الإستراتيجي الذي عنون سياسة الولايات المتحدة الخارجية تجاه تايوان ربما أمّل في احتواء الصين التي كانت حينها بدأت للتو مشروعها التنموي، وكان ناتجها المحلي عام 1979م لا يتجاوز 178.8 مليار دولار مقارنة بأمريكا واليابان اللتان سجلتا في العام نفسه 2.3 و1 ترليون دولار على التوالي. اليوم تقف الصين على هرم ناتج محلي قدره 14.7 ترليون، ما يعني حتماً أن الغموض الإستراتيجي الأمريكي لم ينجح في ترويض الصين انطلاقاً من تايوان سواء على صعيد الانفتاح الثقافي أو الانضواء تحت راية أمريكا سياسياً، وإنما مع الوقت كونت الصين شخصيتها الدولية وخياراتها الاقتصادية والسياسية مما جعل سياسة الغموض الاستراتيجي تجاه تايوان مكلفة جداً لأمريكا، وغير ذات جدوى.
وبالتوازي، نهجت الصين، بحسب مجلة الدبلوماسي في عدد نشر قبل عام تقريباً، طريق سياسة الغموض الإستراتيجي تجاه تايوان؛ وتمثّل في شراء الوقت والتعويل على التايوانيين من ذوي النزعة للوطن الأم والتوجهات السياسية الشيوعية، وكانت تؤمل أن يكون الوقت وحده كافياً لإعادة الولاية «المنشقة» إلى حضن الوطن الأم، غير أن النتائج كانت مخيبة، فقد أضحى النأي الشعبي في تايوان عن الانتماء للصين ملاحظاً ويصل إلى نحو 60 % بعد أن كان لا يتجاوز 17 %. هذا المؤشر يُضاف إليه الحرب الباردة بين أمريكا والصين، التي شهدت تصعيداً خطيراً في وقت الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، وورثه في التصعيد الحزب الجمهوري في الكونجرس مما جعل الصين تحاكي أمريكا في توقيع شهادة وفاة الغموض الإستراتيجي تجاه تايوان، والتلويح بعودتها للوطن الأم سلماً أو حرباً.
وإذا كانت أمريكا قد تبنّت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إستراتيجيات دولية تقوم على «الفوضى وعدم اليقين» فإنها مع فشل غموضها الإستراتيجي المكافئ لعدم اليقين، قد تلجأ للجناح الآخر في سياستها وهو «الفوضى» التي يمكن أن تحدثها النزعة الصارمة لتسليح أستراليا بأسلحة نوعية للانخراط بفاعلية في صيانة أمن المحيط الهادي في مواجهة التهديد الصيني المتصاعد، وبذلك تخلق فوضى في المحيط، وأخرى في أفغانستان، ولا يمنع من توتر متزايد بين إيران وأذربيجان.
الصين بدورها لن تقف مكتوفة الأيدي، ولا أعتقد أنها سوف تنتظر بناء السفن النووية الأسترالية ولا اكتمال التحشيد الثلاثي الأمريكي البريطاني الأسترالي في المحيط، وإنما ستبادر إلى عمل ما على الصعيد التايواني والأفغاني للجم الفوضى المتوقعة. وربما تلجأ إلى الضربات الاستباقية سواء على المستوى الاقتصادي أو الشعبي أو حتى العسكري المحدود ضد تايوان مستفيدة من المراجعات العميقة التي تجريها الولايات المتحدة لسياساتها الخارجية ولما تمر به في الداخل من استقطابات حزبية تعيق قدرة أمريكا على المبادرة. وفي الوقت الذي يرى فيه الكثير من المحللين أن أجواء تايوان أصبحت مكشوفة سياسياً، وأن أمريكا لم تكن يوماً ملتزمة بخوض حرب من أجل تايوان، فإن هناك من يشكك في رغبة وقدرة الصين على المبادرة، بل يذهب البعض إلى اعتناق مقولة جورج فريمان بأن الصين نمر من ورق.