بإشراف: دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر - المملكة العربية السعودية
مؤسسة حمد الجاسر الخيرية 1438هـ
عالم المخطوطات والرحلة في سبيلها عالم رحب واسع، مترامي الأطراف، متباعد الجهات دربه عويص، ولغته صعبة، ومفتاحه الصبر، والتصبر، والأناة والتجلد، ليسفر لك عن علم جم، وثقافة واسعة، وتراث عميق وعلى مدى ما يربو على إحدى عشرة سنة من سني العالم الرحالة البحاثة حمد بن محمد الجاسر - عليه شآبيب الرحمة والرضوان المتطاولة المدى، جال مكتبات العالم وائتم بأساتيذ رحالين من عرب ودونهم ووثق هذه الرحلات بين دفتي كتاب خفيف حمله، ثقيل قدره والكتاب مر بك عنوانه سلفاً ويقول الشيخ حاكياً عن نفسه، مفصحاً عن قصده (قمت بزيارة الولايات المتحدة أمضيت فيها شهراً كاملاً، ثم مررت بأوروبا فزرت هولندا ولندن، وبعض مدن سويسرا وألمانيا وإيطاليا، وقضيت هناك شهراً آخر، وقد رغب بعض الإخوان أن أتحدث عن مشاهداتي هناك، وها أنا تحقيقاً لتلك الرغبة أورد بعض لمحات خاطفة عن رحلتي في أوروبا وهي لمحات سوف لا يجد فيها القارئ ما يتطلع إليه من الجدة والطرافة، التي اعتاد أن يجدها في أحاديث الرحالة إلى تلك البلاد إذ الغاية من رحلتي تكاد تكون محصورة في البحث عن المخطوطات العربية، رحلة هذه غايتها قل أن تكون مدعاة للأطراف والتشويق).
وهو لا يكل ولا يمل ولا يسأم من تكرار هدفه من هذه الرحلات.
وفي ثنايا الكتاب يكرر ويؤكد هذا الهدف مرة أخرى، فيقول: (لقد كانت رؤية هذه المكتبة من أقوى البواعث لزيارة مراكش، لعلى أن أرى في مخطوطاتها بها ما استفيد بمطالعته).
إذاً طاف شيخنا العالم باحثاً عن كنوز العلم، ودرر التاريخ المقصورة على تاريخ الجزيرة العربية، والقابعة في أكمام المخطوطات التراثية القديمة، وعن وجهته العلمية الخاصة بتاريخ بلادنا يقول: (ينصب حديثي في كثير من الأحيان على المؤلفات النادرة التي لها صلة بتاريخ بلادنا «جزيرة العرب» أو أدبها أو جغرافيتها في العهد القديم، مما هو غير معروف).
وفي مقام آخر: (ما كنت أطالع من الكتب ما لا يتعلق بتاريخ الجزيرة وجغرافيتها) وتارة يقول: (أنا بحاجة إلى زيارة المكتبات المتعلقة ببلادنا).
وفي مقدمة الكتاب الوجيزة قسم الشيخ الرحلات إلى ثلاثة أقسام وذلك بناء على تنوع تضاريسها، وهي التالية:
1 - رحلات خارج بلادنا:
الغاية منها زيارة المدن التي تحوي مكتباتها مخطوطات عربية، للاطلاع عليها ووصفها وتصويرها.
2 - رحلات داخل بلادنا:
لمشاهدة بعض المدن والقرى والمواضيع التاريخية بقصد الكتابة عنها في كتاب:
(المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية).
3 - رحلات للاستجمام أو العلاج وهي غير مهمة عند القراء.
والنوع الأول هو المقصود حيث يقول (ها أنا أقدم جانباً مما نشرت عن النوع الأول من الرحلات وأراه أولى بالنشر من غيره).
هذا وقد طاف الشيخ في أوروبا وحوى ضرها - كما حدثنا قبل قليل - وزار بلداناً عربية، وعرج على مدن تركية.
وفي زيارة الشيخ لعشرات المكتبات في العالم كانت فهارس المخطوطات هي مبتغاه، وأول ما يقع نظره عليها من ذخائر المكتبات يقول (... تحادثنا عن المخطوطات وعن التراث ... وقدم لي فهرسة ما في المكتبة من مخطوطات.... رتبت في كراريس بترتيب موضوعاتها، وقد قال لي إنها تبلغ 1600 تقريباً).
وقد توسع الشيخ في كتابه هذا وبسط حديثاً ماتعاً عن عشرات المخطوطات وكان نسقه في حديثه عن المخطوطة يبدأ بذكر عنوانها، ثم اسم مؤلفها، وعدد صفحاتها ثم يعرض مادتها عرضاً أخاذاً وجيزاً، ومن جميل حديث الشيخ حديثه عن مخطوطة (الجليس الصالح) للمعافي بن زكريا النهراواني الجريري المذهب المتوفى سنة 390 هـ وهذه الفهارس أطلع على السواد الأعظم منها وأدلى بآراء نقدية حيالها من ذلك قوله (لقد أشرت فيما تقدم أن الفهارس المطلوبة لا يصح التعويل عليها أعني فهارس مكتبات اسطنبول) وفي مواضيع متفرقة مرت أمثال هذه الملاحظة عن الفهارس فيقول (ونسبة الكتب إلى غير مؤلفيها مما يكثر وقوعه في فهارس مكتبات اسطنبول) وقوله: (ونجد المفهرسين كثيراً ما يضعون أسماء مؤلفات في غير موضعها من الفهرس) ويعني بقوله هذا أنه قد توضع كتب الأدب في قسم التاريخ وتوضع كتب التاريخ في قسم النحو والصرف وهكذا.
وعن فهارس مكتبة نور عثمانية كتبخانة في تركيا: (لها فهرس غير أنه لا يصح الاعتماد عليه وكثيراً ما تنفق فهارس اسطنبول على الغلط) (وينبغي أن يلاحظ كل من يزور إحدى المكتبات في البلاد التركية عدم الاعتماد على الفهارس فهي كثيرة الأخطاء) ولا تسأل عن أناته وصبره وجلده في قراءة المخطوطات وفك طلاسمها فهو القائل: (لم أطالع شيئاً من هذه الكتب، فلقد كانت غرفة المطالعة ضعيفة النور بدرجة جعلتني آخر الوقت لا أتمكن من القراءة، وقراءة المخطوطات تحتاج إلى قوة في النظر وطول في الوقت وكان الوقت يمضي أكثره في انتظار إحضار الكتب التي تحضر متفرقة في نقلها بحيث لا تزيد في المرة الواحدة على ثلاثة) في مقام آخر (لئن رأي بعض القراء عدم الفائدة في نقل تلك المباحث فليغتفر لي هذا بجانب ما قاسيته من تعب في نقلها، مع ضعف نور المكان وضعف بصري، غير أن موضوع الكتاب، بل دقة أبحاثه وشمولها مما استهواني فوجدت في نقل مباحثه راحة نفسية هونّت كل ما قاسيته من تعب).
والشيخ جم التواضع فهو يكتب وينقل ويصور وينتقد وليس الهدف انتقاص عمل من سبقه فهم جديرون بالثناء والسبب على حد تعليل الشيخ يقول: (لأنهم فعلوا ما يستطيعون فعله ولكن لأوضح أن الباحث يحتاج إلى طول وقت، وشدة تعمق، وهما أمران قد لا يتاحان لكل إنسان).
والكتاب حافل بحقائقه التراثية، وتقييداته، البحثية، وتوثيقاته العلمية، وقد سمي شيخنا المكتبات التي زارها وهي كثيرة:
المكتبة الوطنية في الجزائر، ومكتبة السلطان أحمد الثالث، ومكتبة أيا صوفيا ومكتبة كوبر لي ومكتبة وهبي البغدادي ومكتبات حسين جلبي، والفاتح وعاشر أفندي وراغب باشا وبريل الأوروبية وقد طرق سفر الجزيرة العربية عالم المخطوطات الذي لا يدرك شأوه، وشرق فيها وغرب، وأردفها بحيث مسهب لا يمل رغم أنه ينفي عن حديثه سمة الطرافة والتشويق غير أن قلم الشيخ ماتع، وهو متحدث لبق يسوق معلوماته في ثوب أدبي فصيح فضفاض وحديثه عن المخطوطات طرق فيه موضوعات عدة منها: الرحلات المغربية المتعلقة بموضوع الحج، فقد أطلع وتذوق وصور.
منها ما راق له وعزف عن بعضها لرؤيته عدم أهميتها، وجدواها، أولا لاختلاف موضوع المخطوطة عن قصده وتوجهه العلمي وهو تاريخ الجزيرة العربية وما يتعلق ببلادنا الناهضة المملكة العربية السعودية (ص 60 - 61) وأتحفنا بنقده المتزن المبرهن لكتاب: (الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور براً وبحراً) للزياني كما عرج على طاهرة أرقت الشيخ وأشار إليها في الكثير من كتبه وهي التحامل والتأليب ضد الدعوة السلفية الإصلاحية ورجالها (ص 89) وكعادة الشيخ فهو أحياناً يستطرد كما حدث هذا وهو يتحدث عن مخطوطة (الجليس الصالح) للمعافي بن زكريا النهرواني فيقول (هذا استطراد جرت إليه مناسبة وجود نسخة من هذا الكتاب في المكتبة اليوسفية العامة في مراكش) (ص 95). ثم حديثه عن القيمة العلمية للرسائل التي ألفت في وصف طرق الحج حيث تحوي مباحث جغرافية تكاد المصادر الجغرافية تخلو منها ص 168) وتحدث الشيخ رحمه الله عن حيل الوراقين في العبث بالمخطوط كذلك محاولة إبرازه في صورة الندرة وهو يتحدث عن الكتب في مظانها حديث العارف المجرب، فيشير إلى مكتبة (بريل) الأوروبية. على أنه وجدها أفضل المكتبات في بيع وطبع الكتب العربية وألمح في تنبيهاته إلى نماذج المتشرفين وأخطائهم في نسبة الكتب لمؤلفيها خطاً (ص 221) وثق لقاءه بالأستاذة (ماريا) ابنة المستشرق نيلنو المستشرق الإيطالي وأشار إلى كتبها التي كتبتها باللغة العربية ومنها جمعها لشعر النابغة الجعدي (ص 272) ومن المستشرقين أيضاً المستشرق الإيطالي (دلا فيدا) وجهوده في خدمة الثقافة العربية والإسلامية (ص 272) وفي مباحث الكتاب ما يشير إلى أن جهود الشيخ العلمية ودراساته وتحقيقاته وصلت لأقطار - العالم الخارجي مما جعل المتشرفين الإيطاليين يقرأون مؤلفاته قبل أن يروه شخصياً ومثال هذا ما جرى من حوار بينه وبين شيخ المستشرفين الإيطاليين دلا فيدا) (ص 274) ووثق الشيخ لقاءة بمستشرقين آخرين لهم جهود في خدمة اللغة العربية وثقافتها (من 275) وفي الكتاب مسالك بحثية أخرى طرقها المؤلف يجدها متلقي معارف الشيخ في مظان بارزة وغرائب الكتاب اقتبس منها ما ذكره شيخنا منها من ذلك ذكروا أن اللحن يقطع الصلاة فقيل للحسن البصري: (لنا إمام يلحن) قال: (أخروه) كذلك حديثه عن المتشرف الهولندي (سنوك هي غرونية) كيف أنه تنكر في زيه وزار مكة وكان ذلك قبل 76 سنة وتسمى باسم (عبدالغفار) وأقام فيها خمسة أشهر ونصفاً يقول الشيخ عنه: (لف عن تاريخها وعادات أهلها وجغرافيتها كتاباً له شهرة كبيرة عند المتشرفين) (ص 211).
والكتاب في كثير من مباحثه يحكي شيئاً كثيراً من التجربة الذاتية الشخصية، والشيخ على مدى صفحات الكتاب وهو يوثق زياراته ولقاءاته مع علماء وأدباء ومسؤولين ومثقفين إلا أنه يسمي نفسه في حديثه الذاتي بالعزلة والانقباض على الذات، فيقول: (يلعب على طبعي الانقباض وعدم الرغبة في مخالطة الناس، ولهذا تمضي الشهور لا أكلف عناء زيارة أحد مبتدئاً).
وبعد:
فالشيخ الرحالة العلامة حمد الجاسر - غفر الله له قمة سامقة من قمم التراث العربي حيث نال جائزة الملك فيصل العالمية في أدب الرحلات في شهر رمضان 1416هـ كانون الثاني 1996م، ويعد هذا الكتاب الحافل وثيقة مهمة خطيرة من وثائق التراث العربي وهو من محاسن الكتب ومحامدها التي صاغها الشيخ في نقش رحلاته التي طاف فيها أقطاراً عربية وإسلامية وأوروبية ثم إنه عالم من الطراز الفذ القديم من أولئك الذين جابوا أسفار العالم لينهلوا من معين المعرفة وينبوع العلم ممن يجوب الدنيا ليسمع ويوثق حديثاً نبوياً شريفاً بسنده ومتنه وإسناده ورجاله، وهو من المتذوقين الذين قطنوا البوادي، وزاروا الصحاري لتلتذ مسامعهم بفصيح العرب وبليغها، ومن طراز بن المبارك الذي جاب الفيافي ليرد قلماً لا يدرك قيمته إلا من فقده ورغم أن حديث علامة الجزيرة العربية مؤنس إلا أن ذورة السنام عنده منحصرة في فلك المخطوطات لها، يرحل، وبرحيقها يتذوق وعلى الوعر الغريب منها يسهر وهو يجاهر بهذا الهدف، فلم يرحل لجمال واخضرار دول اوروبا ومدن تركيا ولا ليمتع ناظريه، ويسبر أغوار الشعوب وأسرارها وقد استن في حله وترحاله بسنن الرعيل الأول، فهو سفر من أسفار الدنيا ولكن بحر ماله، وعصب حياته، معتمدا على قدراته متأبطا همة شماء فالعلم يؤتي ولا يأتي، ولا يفوت القارئ الحصيف ما لاقاه همداني الجزيرة العربية من كلف ومشقة وتعب السفر والترحال، ولا يعرف الشوق إلا من يكابده، ولا الصبابة إلا من يعاينها كل هذا وأكثر من ذاك طرقه الشيخ بمتعة نفسية وإرادة فولاذية صلبة هذه الكنوز من المخطوطات شد الجاسر الرحال إليها، وطوى المسافات من أجلها، وضرب أكباد الإبل فيها وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.
** **
قراءة: حنان بنت عبدالعزيز آل سيف - بنت الأعشى -
عنوان التواصل: hanan.alsaif@hotmail.com