عبدالخالق بن عبدالجليل الجنبي
لا يخفى على أحدٍ الدور المتألق الذي تبذله دارة الملك عبد العزيز في كتابة وتوثيق تاريخ الجزيرة العربية، وتيسير وصول المعلومات التاريخية إلى الباحثين والقرّاء من خلال طبع ونشر عشرات المصادر التاريخية القديمة والدراسات الحديثة في أبهى صورة، وبأسعار رمزية قد لا تغطي حتى سعر التكلفة، وأحياناً تقوم بإهدائها لبعض الباحثين مجاناً، وما هذا إلا دليل على حرص الدارة على حصول هؤلاء الباحثين على المعلومات بكل يسر وسهولة.
وكان من آخر إصدارات الدارة السلسلة المفيدة من كتاب (الجزيرة العربية في المصادر الكلاسيكية) التي سخّرت الدارة فيها كل إمكانياتها لتقديم خلاصة ما ورد في المصادر الإغريقية والرومانية القديمة - والباب ما زال مفتوحاً لمصادر أخرى - عن الجزيرة العربية بحيث إنّ الطاقم العلمي الذي اختارته الدارة لأجل هذه المهمة قام بنخل جُلّ المعلومات المتعلقة بالجزيرة العربية من هذه المصادر، وتقديمها بصورة بهية واضحة مرتبة، وباللغتين: اللغة الأم للمصدر، وترجمة ذلك باللغة العربية مع تعليقات علمية في الحواشي وملحقات فنية في آخر كل مصدر من ضمنها فهارس الأعلام العامة.
غير أنّ أي عمل إنساني مهما وصل إلى ذروة من الكمال؛ إلا أنه يبقى عملاً إنسانياً لا يخلو مما لا يخلو البشرُ منه من نسيانٍ، وتحريف، وتصحيف، وأخطاء في الترجمة، فكلنا في النهاية بشرٌ نصيب ونخطئ.
وعند حصولي على هذه السلسلة ضمن نسخة حاسوبية؛ بادرت أول ما بادرت إلى الاطلاع على الكتاب الخاص بالمؤرخ الإغريقي في عصر الإسكندر: أجاثار كيدس الكنيدي (Agatharchides of Cnidus)، والذي هو عبارة عن منخول ما وصل إلينا عن الجزيرة العربية من كتابه الشهير (عن البحر الإريثري)، وذلك لوجود نصٍّ خطير له كنتُ قد دونته في كتابي (جرّه مدينة التجارة العالمية القديمة)؛ الذي قلتُ فيه ما هذا نصُّه عن مدينة جرّه (Gerra) الشهيرة:
«وذكروا أيضاً أنها كانت تضاهي مملكة سبأ في الغِنى والثراء؛ كما ذكروا أنّها ومملكة سبأ كانتا أغنى الأمم القديمة على الإطلاق وفي هذا الصدد يقول مؤرخ القرن الثاني قبل الميلاد الإغريقي أجاثاركيدس (Agatharchides):
«No nation seems to be wealthier than the Sabaeans and Gerrhaeans, who are the agents for everything that falls under the name of transport from Asia and Europe. It is they who have made Ptolemaic Syria rich in gold, and who have provided profitable trade and thousands of other things to Phoenician enterprise».
وترجمته:
«لا أمة تبدو أغنى من السبئيين والجرَّهيين الذين هم وكلاء كلّ شيء يقع تحت مسمى النقل من آسيا وأوروبا؛ إنهم الذين جعلوا سوريا البطالمة غنية بالذهب، وهم الذين أمدّوا المؤسسات التجارية الفينيقية بالتجارة المربحة وآلاف الأشياء الأخرى».
هذا ما كتبته في كتابي، وعندما اطلعت على الترجمة العربية لذات النصّ في الفقرة (5: 102)؛ من الصفحة 52 من الكتاب الخاص بكتاب أجاثاركيدس من سلسلة (الجزيرة العربية في المصادر الكلاسيكية) تحت عنوان: «الثراء الفاحش للسبئيين!»؛ فوجئتُ به مترجماً بما هذا نصُّه:
«ليس ثمّة أمّة تتمتع بالرضا أكثر من السبئيّين؛ إذ إنّهم الشعبُ الذي يوزع كلَّ شيء ذي قيمة من آسيا وأووربا، وهم الذين صنعوا ثراء القسم البطلمي من سوريا بمعدن الذهب، وهم أيضاً الذين استحدثوا تجارة رائجة للصناعات الفينيقية وغيرها»
نعم هكذا بحذف لفظة (الجرَّهيين) - أو (الجرهائيين) بحسب ترجمتهم هم لاسم المدينة وسكانها - وهو خطأٌ فادح جداً أنْ يُحذف اسم قومٍ كانوا ثاني أمتين شُهريين مع السبئيين في الجزيرة العربية، وعندما رجعت إلى النصّ المدوّن بلغة الكتاب الأصلية، وهي الإغريقية اليونانية؛ وجدته مكتوباً في الصفحة: 69 من الكتاب.
ومن الواضح وجود اسم الجرّهيين في النصّ، وهذا هو الصحيح، فلا أدري كيف غفل المترجم عنها، وهذا مما ينبغي أن يُصَحَّح لأنه من الأخطاء الجسيمة أنْ يُحذف اسمُ أمّة ذات شأن كبير من أمم الجزيرة العربية، وهم الجرَّهيّون؛ من نصّ خطير كهذا النصّ.
وأيضاً، فإنّ مما لاحظته على المترجم هو ترجمته لاسم مدينة: (جرَّه) (Gerra)، بحسب الاسم الإغريقي لها إلى اللغة العربية عن اسم هذه المدينة الروماني (Gerrha) الذي يُنطق: (جرّهَا)، ويسمّيه الباحثون العرب (جرهاء)، وهو خطأ تَرْجَمِيٌّ قديم وقع فيه المترجمون الأوائل الذين نقلوا الثقافة اليونانية الإغريقية من لغتها الأم إلى اللغة الرومانية بعد أن ورثت الإمبراطورية الرومانية الإمبراطورية اليونانية، وقد ذكرت بالتفصيل هذه المشكلة في الترجمة من اليونانية إلى الرومانية بخصوص اسم مدينة (جره) - التي أوضحتُ رأيي في أنها هي مدينة (هجر) العربية - في كتابي (جره مدينة التجارة العالمية القديمة)، وذكرت هناك المشكلة التي صادفت المترجمين الأوائل لهذا الاسم موثّقاً بالمصادر، ولا بأس بأن أعيده هنا مختصراً للفائدة، ومن أراده موسعاً مع المصادر، فليراجعه في كتابي المذكور.