جابر بن محمد مدخلي
بين الأمس واليوم دورات كثيرة مرّ بها معرض الرياض الدولي للكتاب، وفي كل عام كانت السلبيات تتراكم للعام التالي، لنشاهد معرض كتاب يكرر نفسه، بل ويزيد على كاهله من التراكمية السلبية أو لنقل الصورة النمطية للتشددية التي هي الوراء المسيطر الذي تتناسل خلف جدرانه صور التعكير للصفاءات الذهنية، والاجتماعية، والثقافية.
وأما هذا العام فقد جاء الكتاب في مناسبة «كوفيدية» عالمية، ولكن الثقافة واجهت عتوّه والمثقفون والمثقفات حملوا على عاتقهم النية المُعلنة لمواجهته كيفما كان. ولِما سبق المعرض من استعدادات هائلة ربط الجميع على قلوبهم، وانتظروا الانتصار المدوّي القادم من الفُرق القائمة عليه والخارجة من ثوب قيادة شابة، وسلطة ثقافية شابّة ممثلة في سمو وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود، وأخرى ذهنية متفتحة ومنفتحة على الآفاق منتمية للمشهد الثقافي وقارئة فاحصة له ممثلة في هيئة الأدب والترجمة والنشر وتحديدًا برئيسها التنفيذي الروائي الدكتور محمد حسن علوان، وشرائح ثقافية شُبّان وشابّات من أبناء البلد هم الذين حرصوا على أن يزرعوا الابتسامة استقبالاً وتوديعًا وكأنما هم آلة لصنع الابتسامات لا بشر يسيطر عليهم الإنهاك، والعناء والتعب. والحاضر لتوسيع مداركه وتسليط إبصاره على ملامح الجمال والدهشة -لاشك- بأنه رأى ذلك عيانًا بيانًا.
كل هؤلاء وغيرهم مما خفي كانوا يعملون على رفع جاهزيتهم قبل البدء وبعد البدء.
ولعلي أكون منصفًا قليلًا لأنقل ما رأيته من خلايا النحل التي تعمل ليل نهار في سبيل إرساء قواعد ثقافية في لوحات خلاَّبة أبهرت المجتمعات الثقافية العربية والعالمية بأكملها.
ولعل أكثر ما كان مُعتّقًا وجالبًا للبهجة في هذه الدورة لمعرض الكتاب هي خلوّه من التعسفية وليّ الأذرُع بمصطلحات انعتق منها المجتمع بأكمله في فترة وجيزة، وصارت الرؤى واضحة أمام مشروع ثقافي عملاق لا تحدّه الجهات، بل في سبيله للانفكاك من أزمة التشددية المنحوتة طوال عقود في كثير من الممرات، والثابتة كتأصيل لا انفكاك منها، ولا ممرّ لها غير إقحامها في كل مناسبة.
وأما هذه المناسبة فقد جاءت خالية من عُصارة اقتلاع الرأي، ومصادرة الفِكر، وتقزيم المثقف، وهزيمة الوعي الجمعي.
كانت أماسي شعرية، وثقافية، وفنّية، ومسرحية، كانت الحُلم الذي ربّته القيادة في ظل أزمات كثيرة حتى اكتمل نموّه ونضجه ليكون مدفوعًا لعامة المجتمع ليقرروا حياله ما شاؤوا، مسنودين بدوائر إدارية جديدة بدت للجميع مفتوحة للدخول فيها والخروج منها بحُريّات تامة.. وليست كتلك الدوائر القديمة التي قُذفت داخلها أوراق كثيرة، وعناوين، ومؤلفات لم تخرج وتُستعاد إلا في معرضنا هذا.
ولعلي أختتم مقالتي هذه بإضافة فريق شبابي آخر خلاَّب تداعى للسهر، وانغرس في قلب المعرض، وراح أتباعه يمارسون أنشطتهم الثقافية والتثقيفية على أكمل وجهٍ وحيوية طامحة في تمرير مُنتجاتهم الورقية، ومنسوجاتهم الإبداعية في معرض قدره أن يجيء ويكون شبابيًا بامتياز..
هذا الفريق الإضافي هو الناشر السعودي، وسأنزوي بهؤلاء الشُبان قليلًا لأنثر بعض مقتنياتي العظيمة منهم والتي حملتها من الرياض وعدتُ بها معي.. ولم تكُن كُتبهم، ولا مبيعاتهم، ولا رؤيتهم التجارية القائمة على مصدر بيع الورق؛ لأن من التقيتهم من هذا الفريق الشاب لم يكونوا وراقين بمقدار ما كانوا وطنيين خُلّص لتجربتهم، وطموحهم، ورغبتهم في الذهاب بالكتاب والمؤلف السعودي للمدى الأبعد:
- الشاب الأستاذ معجب الشمري صاحب دار تشكيل ورفاقه ولنسمو قليلًا ونعلو بهذه الدار التي ظهرت منذ البدء وتصالحت مع مجتمع ثقافي ظلّ يرسخ أسماء لا غيرها يعلو، ولا غيرها يدنو وظلّ هذا الترسيخ مفهوم مشهدي لأعوام طويلة حتى جاءت هذه الدار التي وقف خلفها شُبّان قرروا إفراز أسماء إبداعية بدت في هذا المعرض كتشكيل إبداعي جديد منها ما هو حامل للمشهد منذ عقود، ومنها ما لا شك سيحمل المشهد لعقود قادمة. ولعلي أتذكر حديثًا دار فيما بيننا حول إرادته ورفاقه في تغيير مفهوم النشر، وحمل الكتاب السعودي لآفاق أبعد مما هو عليه الآن، ويمكنني الوثوق بما قاله تحديدًا بعدما حققت تشكيل مُنجزها الأخير. ومن هنا علينا جميعًا أن ننظر إلى الغلاف الشبابي القادم والطامح في ترقية مشهدنا إلى مشهدٍ عالميٍ يُصدّر أعمال وطنه الإبداعية كما يستورد عبر الترجمة أعمال أوطان أخرى.
- الشاب الأستاذ عبدالله الغبين صاحب دار أثر.. هذا الذي ساند الترجمة واعتنى بها حتى لامست سقفًا مقبولًا في مشهدنا الثقافي، وجاء بمفاهيم جديدة في المنتج الإبداعي حاضرًا بإقناع، وقابلًا لكل عمل سردي كان أم شعري شريطة أن يبقى في لجنة متخصصة لقراءة الأعمال لأشهر طويلة كما لو أنّه بهذا العمل الشبابي المخلص يذكرنا بقصائد الحوليات التي تخرج لنا بعد عناء الشعراء لكنها تبقى خالدة لأعوام طويلة. وما كان حديثي معه إلا رغبةً في الاطلاع على خلفيات الرؤى وقامة الطموح القادمة لأعلم يقينًا أنّه يعي جيدًا أين ستكون خطوته ومكانة داره المقبلة بين الدور المحلية والخارجية.
- الشاب الأستاذ سليمان مسعود صاحب دار إرفاء والذي التقيته في داره القابعة في إحدى زوايا المعرض، والتي كانت لحظتها مقتضّة بالقرّاء، والزوار. كنّا لحظتها وكان الحديث، كنتُ أختار الإنصات لما أورده في منهجه المتبع لتطوير الدار، وما يحتاجه الناشر السعودي في بدايات مشواره الخادم للثقافة، والشاعر بمسؤولية تجاه ما ينشره لمبدعي ومبدعات الوطن، وكذلك المبدع العربي بشكل عام. فهمتُ من حديثه أنّ الرغبة في الذهاب للبعيد حاضرة، ولكن هناك أكثر من معوّق أمام كل ناشر سعودي.. وأثناء حديثي معه انتبهت للزحام الذي بدأ يتدخل في الممر الذي اقتطعناه لنا لأودعه على وعد باللقاء.. ولعلي الآن قررت الالتقاء به وبالآخرين وبطموحاتهم هنا على سطح هذا المقال الذي آمل أن يصل إلى كل مسؤول ومعني بالنشر والناشر السعودي ليرى همّهم وطموحهم الساعي لرفع فاعلية الكتاب السعودي، والناشر السعودي، والمشهد الثقافي السعودي..