أحمد المغلوث
مئات المستشرقين الذين سحرهم الشرق بل العالم العربي وبالتالي حملوا أدواتهم وراحوا يرسمون جماليات المكان والزمان وهم يجسدون دهشتهم وانبهارهم بما يشاهدونه من موحيات في الجوامع والأسواق وداخل الخانات والقصور. بل بعضهم كان يقضي سنوات في عواصم الدول لمزيد من الدراسة والبحث والتسجيل والرسم ومن ثم يعودون إلى بلادهم في الدول الأوربية حاملين كنوزهم من المقتنيات أو الرسوم واللوحات التي أنجزوها خلال سنوات إقامتهم في البلاد التي اختاروا الإقامة فيها.. وجميعهم باتوا حتى اليوم مشاهير وإنتاجهم من اللوحات والرسوم وجد طريقه في العديد من متاحف العالم والمتاحف الخاصة. وفي زاويتي اليوم سوف أكتب عن « اتيان « الفنان الفرنسي دينيه أو (ناصر الدين) والذي قام بمغامرة استطلاع للجزائر التي أحبها كان ذلك في بداية القرن العشرين كما تشير إلى ذلك سيرة حياته.. لقد جذبه الشرق أو العالم العريبي مثله مثل غيره من المستشرقين كتاب ورحاله ورسامين أو حتى طلاب علم وأبحاث وآثار.. وكان يتردد بين فترة وأخرى على الجزائر لكن هذا الفنان المبدع والذي ينحدر من أسرة عريقة وبرجوازيه مما تتيح له حياة مستقرة ومرفهة بعيداً عن التعب أو الانشغال فقط باهتمامه بالرسم إلا أنه كان يميل إلى ممارسة «الرسم» الذي أجاده منذ الصغر بشغف واهتمام كبيرين.. فرسم العديد من اللوحات في وطنه فرنسا لكن عندما زا الجزائر أكثر من سحرته المشاهد والحياة وبساطة الناس وتقاليدهم وعاداتهم وألعابهم وحتى طقوسهم الدينية واحتفالاتهم الاجتماعية. فراح يكرس نفسه ووقته ليرسم ويرسم. بل دفعه هذا السحر الذي بات عشقاً لا فكاك منه إلى أن يتجه لقرية بسيطة هادئة اسمها «بوسعده» ليقيم فيها ومع مرور الأيام أعلن إسلامه واعتكف في مرسمه ليرسم ويدرس اللغة العربية ويقرأ التاريخ العربي وليسبر غور كل ما له علاقة بالحياة الجزائرية مما ساعده على إنجاز عشرات المئات من اللوحات التي يرسم فيها مختلف جوانب الحياة بل أن بعض لوحاته عن الرجال والنساء جسد فيها تلك العلاقة الإنسانية العظيمة من ألفة ومحبة وعشرة. رسم الأطفال وهم يلعبون والصلاة في المساجد أو حتى في الصحراء.. الأسواق الأفراح، وحتى الاهتمام بمراقبة هلال رمضان.. واهتم برسم لوحات رجال القبائل والفرسان ونساء الصحراء « البدويات» بملابسهم. وكرس وقتاً كثيراً لرسم الأسواق الشعبية وألعاب الرجال الأولاد وكذلك البنات. وجسد جوانب مختلفةمن داخل البيوت. كان راصداً بدقة لحياة أبناء «بوسعده» وإعجابه الشديد بتقاليدهم التي هي امتداد لتقاليد الجزيرة العربية ببساطتها وعراقتها وبتمسكهم الشديد بذلك. كان يشعر الفنان دينيه (ناصر الدين) أنه يحمل مسئولية إبراز هذا التميز في قريته «بوسعده» بشكل خاص والجزائر بشكل عام.. وبعد الحرب العالمية الأولى عرضت للفنان دينيه مجموعة من لوحاته في باريس ومع إعجاب الفرنسيين بها إلا أنه اتهم من البعض بالخيانة.. وفي عام 1929م سافر إلى مكة لأداء فريضة الحج فأصبح الحاج نصر الدين وبعد عودته من الحج سافر إلى باريس حيث توفى فيها وحسب وصيته نقل جثمانه ليدفن في بلدة «بوسعده» التي عشقها ورسمها.. وفي بيته «المتحف» كنز من اللوحات التي لا تقدر بثمن.. رحم الله الفنان نصر الدين الذي عشق العرب ورسمهم.