د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** للمحقق الشيخ محمود محمد شاكر 1909-1997 م رأيٌ مهمٌ في الثناء الذي يجده الإنسانُ في حياته وقت ألَّا يراه مستحَقًا، وهو ما لقيه بعد صدور كتابه عن المتنبي وعمره سبعةٌ وعشرون (1936م)، وقال إنه لم يحفل بالمديح، بل أهمله، ولم يحفظ من الكمِّ المنشور إلا مقالًا واحدًا لكاتبٍ ظنَّه غيرَ مجامل، ومن يعرف سيرة «أبي فهر» يعي أنه لاستشعار العظمة والعُجْب بالذات أقرب، وأن التواضعَ آخرُ سمةٍ يمكن أن يوصفَ بها، وللتأريخ؛ فكتابه هذا من أبرز مقتنيات المكتبة العربية.
** ليس مهمًا هنا من يقابله في الضفة الأخرى من عاشقي «دُخان البخور»؛ إذ هم أكثرُ من العدّ، ولكن الأهمَّ غيرُهما ممن يربطون قيمتَهم المعنويةَ بحضورهم الذاتيّ؛ فلا يقعُدون ولا يتقاعدون خشيةَ أن يُنسوا أو يُهمَلوا، وكي لا يحسُّوا أن دورهم في الحياة العامة قد انتهى.
** والسؤالُ الموازي: هل يتناسبُ طولُ البقاء في الواجهة مع طِيبِ الذِّكر تناسبًا طرديًا أم عكسيًا؟ وهل الغيابُ مؤشرٌ على عقوقٍ متوقع؟ وهل ينتظرُ المرءُ خلودًا يرسمُ ملامحَه التي يرغبُ أن يضيء بريقُها زمنًا ممتدا؟
** لا تناسبَ منتظمًا بين الحضور والبقاء، وفي التأريخ الثقافي بقي عشرينيون ودُفن تسعينيون، والضدُّ كذلك؛ فالذاكرةُ الجمعية ستنسى الشخوص وتركز على النصوص، ومن غادر مثل المتنبي في خمسينه، وطرفة والشابي في عشرينهما، والجواهري والجهيمان في تسعينهما فلا دلالةَ ثابتة لطول أو قصر مُكثهم، ولن يدوم المتكئون على الوصل الرقمي؛ فالقامات لا تتماثل في حسابات التأريخ، ولن يظلَّ الصغارُ - في دفاتره - أطولَ ولا العاجزون أقدر.
** أنكر الشيخان عبدالعزيز بن باز ومحمد العثيمين - رحمهما الله - مدحَهما بما يُشبه الغلوّ فيهما، والقضية هنا مرتبطة بما يتجاوزُ المدارَ المباح؛ فمن الثناء ما يحرم، ومنه ما يُخشى معه الافتتان، ومن المدّاحين من يستحقون حثو التراب كما في الأثر الكريم، غير أن رفض الثناء ليس ظاهرةً صحيةً بصورة مطلقة، بل إن التوجسَ منه قد يشفُّ عن قلقٍ أو خوفٍ أو عدم ثقة، والتوسطُ هنا مهم كي يبقى للمشاعرِ معنى.
** روى الدكتور عائض الردّادي في كتابه: (حمد الجاسر: صدى السنين الحاكي، 1443هـ) أن الشيخ طلب منه - في حوارٍ منشور -حذف لقب: «علَامة الجزيرة العربية»، والاكتفاء - إن كان لا بدّ - بلقب» الشيخ» الذي استحقه عن جدارة بسبب العمر، وحين ترددت كتابات تدعو لمنحه جائزة نوبل، ولم يجد الترشيحُ قبولًا من الردادي الذي رأى مقام الشيخ أجلَّ وأكرمَ منها كتب الشيخ حمد للدكتور عائض رسالةً خاصةً، وفيها: لم تبلغْ بي البلاهة حدًا يحملني على التطلع إلى ما لستُ جديرًا به؛ فأيّ جانب ثقافي انفردتُ بالتبريز فيه ... ؟!..الخ، وهو رفضُ امتلاء لا تغليف خواء.
** ستُطوى صفحاتُ الحياة، ويبقى ما نقدمُه لما بعد الممات، ولن تُجديَ سحائب البخور في اجتلاب النور أو محو الديجور.
** القصيدةُ تُضلّ والقصديّة تستظلّ.